في واقع العالم العربي خلال السنوات المنصرمة الكثير من الدروس والعبر، لا نتحدّث عن حساب الأرباح، بل عن حساب الخسائر الاستراتيجية الفادحة التي تتعلق بحاضر الأمة ومستقبل أجيالها.
شتان ما بين الثورة كهدف أسمى يدعو الى التغيير نحو الأفضل، وبين ما يسمى (ثورة) تلك الظاهرة الجديدة التي تسخر في خدمة أعداء الأمة، عندما ركبت واشنطن والدول الغربية موجة الأحداث والتحولات التي بدأت في تونس ومصر، وهدفها من خلال ذلك توجيه الظاهرة في خدمة سياسة كانت اعتمدتها قبل سنوات وجوهرها دعم وصول ما تسميه “الإسلام السياسي” المعتدل لإعتقادها أنها قادرة على احتواء الإرهاب، البعض من هؤلاء اعتبروا الفرصة سانحة وتاريخية فانقضّوا على الوليمة.
وفي المسرح الإقليمي والدولي، تمّ مواكبة الأحداث، وإعتقد البعض أن إنتصار “الربيع الإخواني” في مصر قد تحقق، وهو فرصة لدول مثل تركيا التي سارعت لاستخدام الورقة من أجل تعزيز وجودها الإقليمي من خلال دور من الوكيل الأميركي الذي ظنّ أنه يقود العالم بأسره ، وسارعت دول صغيرة تمّ نفخها على عجل واستخدم ثقلها المالي في خدمة الربيع المزعوم، وظنّ الغرب بأنه امتلك ورقة هامة، لم تمضِ سوى أشهر قليلة، وظهرت الحقيقية بكل تداعياتها.
سقطت الظاهرة المزيفة، وبدأ النزيف في جسد الأمة، الخاسر الأكبر هي أمتنا والرابح هو قوى الاستعمار والهيمنة الدولية، في الحد الأدنى استطاع هؤلاء إضعاف قوى التغيير الحقيقي في سوريا ومصر والعراق وجرها الى معركة جديدة في مواجهة قوى الإرهاب العالمي، على حساب قضايا الأمة ومنها القضية الفلسطينية.
وبدأ موسم العواصف، ومرحلة انتقالية طويلة ومؤلمة، أدخلت دول ومكوناتها الى كهوف التاريخ وأوهام امتلاك حلول نهائية جاهزة لحل مشكلات جديدة مطروحة في عالم جديد يتكوّن، وكان قدر الأمة أن تدفع الأثمان الغالية.
الجديد هو ما يتم تسويقه (أجواء التوافق الإقليمي والدولي الحالي ومسلسل جنيف الطويل) والمرشح للإستمرار في الملف السوري والإيراني، وملف المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية وغيرها…، وجميع هذه الملفات مفتوحة على كثير من الاحتمالات، والخسارة في أحدها تنعكس على جميع الملفات، من هنا تشتد الهجمة على سوريا وإيران ويسخّر لها كل الإمكانيات، وأصبح مكشوفاً كل ما استخدم من أدوات محلية وإقليمية باعت نفسها للشيطان.
الراعي الأميركي للمفاوضات لا يريد إعطاء أي شيء للفلسطينيين، بل يعمل وبشكل واضح لترجمة الطلبات والشروط الإسرائيلية التي تعزز المشروع الصهيوني كما هو مرسوم أصلاً، والراعي الأميركي يتبنّى اللاءات الإسرائيلية في “عدم العودة الى حدود 1967 وضم القدس والمستوطنات وحدود الجدار وتصفية قضية اللاجئين وخصوصاً حق العودة” ويضيف شرطاً جديداً “الاعتراف بـ “إسرائيل” كدولة يهودية” وإنهاء الصراع، أي إقامة “إسرائيل الكاملة”.
هذا يعني استحالة التوصل الى اتفاق يحقق ولو بعض المكاسب الشكلية، ما يعني أن الاستمرار في المفاوضات ليس مقبولاً في حدّه الأدنى وهو انتحار سياسي وفي حدّه الأقصى هو تفريط وتخلٍّ عن القضية التي هي أمانة الأجيال، والمرحلة ليست مرحلة حل وتسوية، هي مرحلة استنزاف طاقات الأمة، فلا يعطى الضغيف شيئاً.
إن قراءة الواقع هو أمر إيجابي إذا كان الهدف تغييره نحو الأفضل، وهذا يتطلّب وعي للمرحلة بكل تشعباتها وإبقاء القضية حيّة والحفاظ على تفوقها الأخلاقي المنسجم مع عدالتها، وحدة القضية والشعب والأرض، وعلى مستوى الإقليم وحدة الملفات، وإعادة بناء الحركة الوطنية الفلسطينية وبلورة استراتيجية جديدة، وعليه لماذا لا يكون البديل عن المفاوضات هو جنيف “فلسطيني” أيضاً؟، والعودة الى مقولة “الملفات رزمة واحدة” وهذا يحتاج الى العمل وتقديم الكثير من التضحيات، لكنه يبقى الطريق الأسلم قبل أن يضيع ما تبقّى من أوراق!