في الحديث عن التسويات الكبرى في المنطقة، لا بد من التدقيق في اللغة والمفردات التي تستخدم لوصف واقع الحال، وأيضاً لا بدّ من استحضار الجدل، “فالتقاطع والتوازي والتقسيم وجمع الأطراف وتقاسم النفوذ والمحاور والإلتقاء والتطابق والتزايد والمحصلة”، كلها تعابير ديناميكية تترجم الواقع.
نتوقف أمام ما تحدث به سيد المقاومة أمين عام “حزب الله” السيد حسن نصرالله قبل أيام، تحدث سماحته عن سرعة استغناء الولايات المتحدة عن حلفائها، وقال: “عندما تحصل تسويات كبرى في العالم، حلفاء وأصدقاء هذا الطرف وذاك يقلقون، لكن نحن لا نقلق من حليفنا، كان ومازال لدينا حليفان أساسيان، إيران وسوريا، قولوا لي هل في يوم من الأيام باعنا حليفنا؟… نحن واثقون بعلاقتنا مع حليفينا، لكن هل تريدون أن نعدّ كم مرة تخلّى عنكم حلفاؤكم وتركوكم في قارعة الطريق؟”.
وعند التحذير الذي صدر عن إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما للكونغرس الأميركي: “من أن عدم الاتفاق مع طهران في المسألة النووية وعدم إغرائها برفع تدريجي للعقوبات التي تخنقها البديل هو الحرب…”، ومثل هذا يتناغم مع الرأي العام الأميركي والأوروبي الذي أصبح يركز على أولوية هي “لا نريد أن نحارب”، ولذلك هناك الهرولة الأميركية والبريطانية أمام القيادة الإيرانية المتأهبة للإستفادة من هذه “الخاصرة الضعيفة” لدى دول الغرب من دون أن تضطر الى تقديم المقابل لها، والمقابل كما يراه مراقبون بات عملياً سحب التلويح بشبح “الحرب”، وواشنطن ولندن وبرلين أوضحت ذلك.
والسؤال، ما الذي قاد الى المعادلة السابقة، بالتأكيد، فالمحور الذي يضم موسكو وطهران ودمشق و”حزب الله” هو محور قادر وجدّي وثابت في هذه الظروف، وروسيا أثبتت مصداقية عالية ولن تغريها الصفقات ببلايين الدولارات التي تمّ التلويح بها مقابل تخليها عن هذا المحور.
لكن أصحاب الرؤية القاصرة مثل “إسرائيل” وبعض “العرب”، الذين طالبوا باستخدام العقوبات الاقتصادية ضد إيران لحملها على الإنصياع لمشيئة الدول الغربية ومازالوا يراهنون على الحرب، ولا يرون الواقع، حيث ترتجف إدارة أوباما وحكومة كامرون بريطانيا خوفاً أمام طهران وتنضمان عملياً الى مواقف حكومة أنجيلا ميركل المستشارة الألمانية القوية التي ترى أن لإيران حق التخصيب النووي، فألمانيا وقفت تقليدياً مع طهران وهي تنظر الى إيران بأنها لم تكن يوماً دولة “معتدية” معتبرة بأنها ضحية ليس لديها تاريخ “الإعتداءات”، لكن وحدها فرنسا تبدو وحيدة في إطار المحادثات النووية الإيرانية توحي بعدم الإنزلاق وإنجاز التفاهم وهي تنتظر تحقيق بعض المكاسب!
واللافت أن بريطانيا لا تكتفي بالهرولة الى استئناف العلاقات الدبلوماسية مع طهران، وتحاول الحكومة البريطانية إيجاد وسيط لها لإيصالها أيضاً الى دمشق بالذات لإصلاح العلاقة مع الرئيس بشار الأسد، وبريطانيا هي التي قادت الى إحباط الضربة العسكرية الأميركية ضد سوريا لتحصد اليوم قيادة قطار المسيرة نحو دمشق، هذا يعني أن هناك تقاطعات لافتة بين المواقف الأميركية والبريطانية والألمانية مع المواقف الروسية والصينية نحو إيران في بعدها النووي ونحو سوريا في مؤتمر جنيف 2 القادم.
وهناك شبه تفاهم دولي على ضرورة التفاهم مع طهران، وهناك موافقة دولية ضمنية على دور إقليمي لإيران وبفضاء واسع يشمل محور المقاومة والعراق.
ومحصلة التسويات الكبرى في الشرق الأوسط، تؤكّد أن الشرق الأوسط الجديد الذي بشّرت به كونداليزا رايس والمحافظين الجدد قد أصبح “فكرة” من الماضي لا مكان لها في أرض الواقع، والإنسحاب الأميركي قد بدأ من المنطقة، والسؤال لماذا هذه النتيجة؟
هم يتحدثون عن وطأة الأعباء الاقتصادية الكبيرة التي تحملتها الولايات المتحدة في حروبها وخصوصاً في أفغانستان والعراق، أو بفعل قرار الإدارة الأميركية صاحبة النظرة الجديدة الى المصالح الأميركية في العالم، لكن السبب الأهم، هو فشل الحرب الكونية التي شنّت ضد سوريا وهذا ما يؤكّد انتصار محور المقاومة، وأحد مؤشراته المفاوضات المتزامنة “الأميركية – الروسية”، و”الأميركية – الإيرانية” وهذه ما أفضت الى تهيئة جنيف 2 لحل في سوريا، والى حل الأزمة الإيرانية – الغربية، أي محاولة التفاهم على معالجة شؤون المنطقة.
وفي التسويات، تتقدّم روسيا وتعمل على ملء الفراغ وهي تملك القدرة والموقع الجيوسياسي والمكانة الإقتصادية وخصوصاً في مجال الطاقة والتصنيع الحربي، وهناك إيران ويسجل لها دورها في تأمين الإنسحاب الأميركي من المنطقة، بفعل دورها في أفغانستان والعراق ومن خلال محور المقاومة في المنطقة.
أما الدول الأوروبية فمن الصعب أن تستعيد دورها الذي فقدته أمام التمدد الأميركي سابقاً، لأنها تعاني أزمات بنيوية وهي تحاول الحفاظ على حد أدنى من الأسواق وإمدادات الطاقة.
والسؤال الكبير، أين النظام العربي والأمن القومي العربي؟ وأين التضامن العربي في هذه التسويات؟
الجواب، نجده عند المواطن العربي، ليسأل أولئك الذين فرطوا وهانوا ويتباكون اليوم عن الصداقات المطعون في ظهرها؟