طالعتنا في الأسبوع الماضي إحدى المحطات التلفزيونية اللبنانية التي نتابع ونحترم وكنا أبداً ندافع عن مصداقيتها في نقل الخبر ولو كان ضد توجهاتها، بتقرير صحفي (ريبورتاج) عن الأسطول السادس الأميركي ضمن نشرة الأخبار، وذلك في ضوء التصعيد الأميركي في تهديداته بالعدوان على سوريا. وقد تم التركيز على دور هذا الأسطول في العدوان على لبنان منذ الاستقلال حيث تم ذكر المدمرة “نيوجيرسي” ومشاركتها الشهيرة في المعارك في لبنان بعد الاجتياح الإسرائيلي في العام 1982. وكانت المفاجأة عندما ذكر التقرير أن المدمرة الأميركية “نيوجيرسي” قامت بقصف الضاحية الجنوبية لبيروت و”بعض مواقع” الحركة الوطنية.
فلنستعرض سوياً تلك المرحلة بالحقائق والتواريخ لتبرير استغرابنا لهذا التقرير. بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان في العام 1982 ومحاصرة بيروت لمئة يوم، شهد لبنان تصعيداً أمنياً وسياسياً أدى إلى تغيير في الخارطة السياسية المحلية. فقد تم القضاء على القوة العسكرية لمنظمة التحرير في لبنان وحصارها في بيروت وقام رئيس الجمهورية بالاتفاق مع الأمم المتحدة بدعوة قوات حفظ سلام دولية مؤلفة من مشاة البحرية الأميركية ووحدات من مظليي مشاة البحرية الفرنسية ومظليي مشاة البحرية الإيطالية للأشراف على انسحاب قوات منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت إلى تونس برعاية الجامعة العربية. وتم انتخاب بشير جميل رئيساً للجمهورية وانسحاب قوات حفظ السلام من لبنان بعد انتهاء مهماتها إلى سفنها الحربية في المتوسط. ثم حصل اغتيال الرئيس بشير جميل وانتخاب شقيقه أمين جميل رئيساً للجمهورية وحصول مجزرة صبرا وشاتيلا واجتياح إسرائيل لبيروت وحل الحركة الوطنية اللبنانية فإعلان قيام جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية ضد الاحتلال الإسرائيلي (جمّول) من قبل الشهيد جورج حاوي ومحسن إبراهيم من منزل الشهيد كمال جنبلاط في بيروت. بعدها بثلاثة أسابيع إنسحب جيش الاحتلال الاسرائيلي من بيروت تحت وطأة العمليات العسكرية لجمّول، ودخلت القوات العسكرية للقوات اللبنانية إلى الشوف وعاليه وبعض مناطق المتن تحت المظلة الإسرائيلية، وابتداء مفاوضات سلام لبنانية-إسرائيلية؛ فكانت حرب الجبل. عندها قام الرئيس أمين جميل بطلب قوات عسكرية دولية للدفاع عن الدولة اللبنانية، فعادت القوات المرابطة في سفنها الحربية إلى لبنان، وبعد مضاعفة عديدها قامت بالانتشار في 29 أيلول 1982 تحت مسمى القوات المتعددة الجنسية، في مطار بيروت الدولي (القوات الأميركية) وفي بيروت الغربية (القوات الفرنسية) وبين المطار وبيروت الغربية (القوات الإيطالية). وفي شباط 1983، إنضمت بريطانيا إلى هذه القوات بعديد من الوحدات المدرعة. في هذا الوقت، وصلت المفاوضات اللبنانية-الإسرائيلية إلى خواتيمها بما عرف باسم اتفاق 17 أيار الذي صادق عليه مجلس النواب اللبناني وكان ينقصه توقيع رئيس الجمهورية. عندها احتدمت معارك الجبل وشهدت العاصمة بيروت عمليات عسكرية ضد النظام اللبناني والجيش، كما أصابت العديد من القذائف المواقع العسكرية للقوات المتعددة الجنسية، ذلك بالإضافة للعملية الاستشهادية ضد السفارة الأميركية في بيروت التي أودت بحياة 63 أميركي. عندها بدأت السفن الحربية الأميركية بالرد من خلال قصف ضواحي بيروت على المواقع التي اعتبرتها (وبحسب الإعلام الغربي) مواقع المسلحين الشيعة والدروز. وكانت هذه السفن هي “بوين” و”فاريس” و”فرجينيا” و”جون روجرز” و”آرثر ريدفورد”، وهي جميعها سفن حربية تعتبر صغيرة مقارنة بالمدمرة العملاقة “نيوجيرسي”.
وفي 23 تشرين الأول 1982، تعرضت ثكنتا القوات الأميركية والفرنسية لعمليتان استشهاديتان أودتا بحياة 241 من مشاة البحرية الأميركية و58 من مظليي مشاة البحرية الفرنسية. هنا بدأت القوات الفرنسية والأميركية بغارات طيران على منطقة البقاع ضد الجيش السوري حيث تم إسقاط طائرتين أميركيتين من طراز (A-6 Intruder) و(A-7 Corsair) وأسر أحد الطيارين ومقتل طيار آخر ونجاة الثالث. وبقيت المفاوضات لمدة شهر بين السوريين والأميركيين من أجل استرداد الطيار الأسير وجثة الطيار الآخر، حيث تمت العملية. في هذا الوقت احتدمت المعارك في الجبل ووصلت القوات العسكرية لتحالف الأحزاب الوطنية والدروز على مشارف سوق الغرب الاستراتيجية، فهي تشرف على القصر الجمهوري ووزارة الدفاع الوطني. عندها أتت القوات الأميركية بالمدمرة العملاقة “نيوجيرسي” وبدأت بقصف التلال المشرفة على سوق الغرب مدعومة بالطيران الحربي الفرنسي والوحدات المجوقلة في الجيش اللبناني التي قامت هي نفسها بتدريبهم. وكانت النتائج إسقاط ثلاث طائرات فرنسية من طراز ميراج، وعدد من طائرات “عصر الديناصور” اللبنانية من طراز “هوكر هانتر”، والمئات من الشهداء من جراء قصف “نيوجرسي” وفشل المهاجمين في احتلال التلال. لقد قصفت “نيوجرسي” 288 قذيفة من عيار 406.4 ملمتر، 30 منها استهدفت المواقع السورية في البقاع والباقي على التلال المشرفة على سوق الغرب؛ وكانت آثار كل قذيفة تصلح أساسات لمنزل من ثلاثة طوابق… فقد كانت تحول الهضاب إلى سهول والسهول إلى وديان.
من هذه الحقائق أتي استغرابي، فإن كان قصف “نيوجرسي” على الضاحية الجنوبية، لما كانت موجودة الآن، وإذا وجدت لكان مسماها “الوديان الجنوبية” نظراً لكونها أرض مسطحة. أما الأمر الآخر المستغرب فهو استخدام كلمة مواقع لـ”الحركة الوطنية”، التي كانت قد انحلت قبل ما يقارب العام من قصف “نيوجرسي”. ولكنني عندما قرأت إسم معدة التقرير، علمت أنها من الطائفة الشيعية الكريمة، عندها ابتسمت بمرارة أتساءل متى سنتخلص في لبنان من هذا المرض الذي ينخر مجتمعنا ويقوض وحدتنا ويهدد وطننا؟ فهل لو كان المعد عمر، كانت “نيوجرسي” قصفت رأس بيروت مثلاً؟ أو لو كان المعد مارون، ما أدراكم، فهل تصبح “نيوجيرسيوف” التي قصفت كسروان؟ أما ما آلمني فهو أن الذي كان يتلو الأخبار هو إعلامي كبير وصديق قديم (أقصد قديماً كان صديقاً، ولكنني لم ألتقه منذ سنين) وهو من تلك البلدة التي كان قصف “نيوجرسي” من أجل حمايتها، ولم يحرك ساكناً عند سماع التقرير الصحفي.
وفي الختام، رحم الله أرواح الشهداء، جميع الشهداء، وها قد أتى “وجع الراس”. فقد كنت مرتاحاً لمتابعة أخبار هذه القناة بالذات لقناعتي بمصداقيتها وعدم تحريفها للحقائق وأن “قلبها” على السلم الأهلي. أما الآن، فما زلت أتابعها لكل هذه الميزات، ولكن الشكوك بعدم قلب الحقائق جعلتني منذ تاريخ نشر هذا التقرير الصحفي أتنقل بين المحطات في ساعة الأخبار لالتقاط أكبر عدد من المقاربات للحدث الواحد كي أستطيع أن أتبين الصالح منه من الطالح؛ فقد اهتزت الثقة مع ألم العاشق المطعون… والنتيجة “وجع راس”!
**