منذ مدة تتحفنا الشخصيات العامة في لبنان بعبارات تعكس آراءها بالشعب اللبناني من دون أن تنسى توصيف نفسها في قوالب تعتبرها رمزاً للإباء والنخوة. ففي إحدى القنوات التلفزيونية اللبنانية انبرى الصحافي الأستاذ محمد سلام منذ حوالي السنة تقريباً، يصول ويجول متكلماً بالفصحة المزركشة وكأنه قارئ قرآن محترف، مدافعاً عن حق دول الخليج باتخاذ إجراءات مجحفة بحق المواطنين اللبنانيين من غير أهل السنة والجماعة، معتبراً أن على أحزاب طوائف هؤلاء كم أفواههم والالتزام بالخط السياسي الخليجي كي لا “تضطر” دول الخليج إلى الانتقام من اللبنانيين بقطع أرزاقهم. وعندما سأله المحاور عن حرية التعبير التي يكفلها الدستور اللبناني وأن ذلك قد يعتبر كذلك مساً بسيادة الشعب اللبناني، أجاب الأستاذ محمد سلام بفصاحته البليغة: “أنا محمد سلام لبناني مسلم سني أقول أن الشعب اللبناني شحاذ، لذلك عليه عدم التطاول على من يطعمه من دول الخليج”. أي، كما فهمت أنا العبد الفقير من جملته البليغة، أن على الشعب اللبناني “الشحاذ” عدم التطاول على “أسياده”. هنا انتابتني ثورة من الغضب وبدأت أقفز في مكاني أشتمه وأشتم تربيته وأشتم أصوله وأشتم مجتمعه… “واحد متلك شحاذ، أمك سليلتك، إلخ”؛ وكنت في إحدى دول الخليج. عندها قررت أن أختار كرامتي على محفظتي وعدت إلى لبنان. ونسيت الحادثة معتبراً أنها زلة لسان من جراء حقد ما أو غضب ما.
ومنذ شهرين تقريباً استضافته إحدى القنوات التلفزيونية اللبنانية مع مجموعة من الضيوف. وفي مجمل الحديث قال الأستاذ محمد سلام بفصاحته المعهودة: أنا لبناني مسلم سني والشعب اللبناني شعب بجم. عندها كنت في لبنان ولم أغضب بل ابتسمت بحسرة لأنني لم أرى ردة فعل مستهجنة من أي من الضيوف “اللبنانيين”. ومنذ أقل من شهر، وفي مجمل كلامه عن قانون الانتخابات والتمديد لمجلس النواب، قال الجنرال ميشال عون في فورة اشمئزاز من الوضع: “شو هالشعب الطز”. معتبراً أنه الوحيد الذي يعمل بحق لما فيه مصلحة المسيحيين في لبنان. وهنا حضرتني قراءاتي الفلسفية خصوصاً ما يتعلق منها بـ”الجدل السفسطائي”، حيث أتى رجل من أهل جزيرة كريت إلى أثينا وأعلن أن جميع أهل كريت كاذبين. عندها بدأ الجدل السفسطائي كالتالي: إذا كان صادقاً، إذن فإن جميع أهل كريت كاذبين، ولكنه من أهل كريت، إذن فهو كاذب، إذن فإن جميع أهل كريت هم صادقون. ولكنه من أهل كريت، إذن فهو صادق، إذن فكلامه صادق، إذن فإن أهل كريت هم كاذبون. ولكنه من أهل كريت… ويستمر الجدل إلى ما لا نهاية؛ هذه هي الشهادة بأن التعميم المنبثق من العنصرية أو الطائفية مستحيل أن يتفق مع واقع الأمور والحقائق العلمية. أما لهؤلاء الذين عمموا تعريفهم بالشعب اللبناني، فإني أسألهم، أليسوا هم من هذا الشعب “الشحاذ والبجم والطز”؟ أما إذا كانا قد اصطفيا شخصهما عن هذا الشعب “الشحاذ والبجم والطز”، فإني قد أفهم تميزهما بما وصفا نفسيهما. بالنسبة إلى الأستاذ محمد سلام، فهو شدد في المناسبتين على أنه لبناني مسلم سني، إذن فهو يقصد بالشعب “الشحاذ والبجم” اللبنانيين من غير أهل السنة عامة، ومن أهل السنة غير الداعمين لمواقفه السياسية على وجه الخصوص. أما الجنرال عون، فقد أعلنها مراراً أنه المدافع الحقيقي عن المسيحيين في لبنان وعليه، فإنني أفهم قصده بالشعب “الطز” اللبنانيين من غير المسيحيين عامة، ومن المسيحيين غير المؤيدين له سياسياً على وجه الخصوص. إما ذلك، وإما أنهما يعتبران نفسيهما “شحاذين وبجم وطز”، وهو ما لا يقبله عقل؛ وإما أنهما لا يعتبران نفسيهما لبنانيين أساساً.
أما ما جعلني أقهقه قهقهة “مفرقعة” فهي تحركات ما يسمى بـ”المجتمع المدني” في لبنان، بدءً بحقوق المرأة مروراً بمعارضة البندورة للتمديد. عن أي مجلس نواب تتكلمون الذي تريدون منه إقرار قوانين مساواة المرأة بالرجل اجتماعياً؟ إن الحقوق السياسية للمرأة في لبنان مصانة، وهي حقوق قد تتخطى حقوق أكثر من نصف رجال لبنان. فإن الحقوق السياسية للمرأة المارونية هي أضعاف مضاعفة للحقوق السياسية للرجل الدرزي مثلاً؛ لأنها حقوق تتخطى الاعتبارات الجنسية ومبنية على الاعتبارات الطائفية… لبنان هو نظام إسمه العلمي: ديمقراطية طائفية. أما الحقوق الاجتماعية فلا ناقة لمجلس النواب فيها ولا جمل. تريدون وقف العنف ضد المرأة، فهل ترضون بقانون “يحدّد” العنف بقوة الضربة أو مكانها على جسم المرأة أو أسباب الضرب؟ إذا كنتم لا ترضون، لن يصدر أي قانون يعارض سيادة المذاهب والطوائف على قوانين الأحوال الشخصية التي تضم العلاقات الأسرية. لا يستطيع مجلس النواب “التعدي” على حقوق الطوائف. حقوقكن يا نساء لبنان مقموعة في قوانين الأحوال الشخصية وليس في مجلس النواب. هل تستطيع المرأة مساواة الرجل بتعدد الأزواج أو منعه من تعدد الزوجات؟ هل هناك مساواة بما يتعلق بحقوقها بحضانة أولادها كالرجل؟ هل تستطيع أن تطلب بطلان الزواج أو الطلاق كالرجل؟ هل تستطيع في العديد من الطوائف أن ترث كما يرث أخيها الذكر؟ في الأحوال الشخصية في لبنان إما يكون الرجال قوامون على النساء وإما يكون الرجل رأس المرأة. وهنا أتساءل، هل منظمات حقوق المرأة في لبنان هي منظمات غبية كي لا تعلم أين منبع قمع مساواتها مع الرجل؟ أم هي كأحزاب لبنان السياسية، تستغل العناوين لمكاسب مالية ومعنوية؟ وتساؤلاتي تنبع من هذا الجهل في مقاربة موضوع حقوق المرأة وتوجيه مواجهتهن إلى المؤسسات السياسية بمطالبهن إما عن جهل وإما عن قصد، حيث أن حقوقهن مهدورة في غياهب قوانين الأحوال الشخصية الطائفية لا في أدراج مجلس النواب. أما إلغاء الطائفية السياسية، فهي تعني إلغاء الطائفية من المؤسسات السياسية والإبقاء على طائفية الأحوال الشخصية والحياة الأسرية… يعني لا مساواة كما تطالبن. الحل في المساواة بين الرجل والمرأة وحقوق الطفل هو بالعلمنة الشاملة والكاملة وحصر الدين بأمكنة العبادة وحرية ممارسة الطقوس التي لا تتعارض مع قوانين الدولة. هل تظنون أن التطور البشري في حقوق الإنسان أتى من الكتب السماوية؟ لم نسمع بشرعة حقوق الإنسان إلا بعد أن قامت الدول التي شرعته بكتابة قوانينها البشرية من خارج النصوص المقدسة. ففي شرعة حقوق الإنسان ممنوع التفرقة المعتمدة على الجنس أو العرق أو الدين أو السن أو الجنسية أو اللون أو الانتماء السياسي أو العقائدي. أما في لبنان فهناك تفرقة تعتمد على الطائفة في الحقوق السياسية والاجتماعية وكذلك على الطائفة في حقوق المرأة الاجتماعية. أما أن تفرضوا علينا “كوتا” نسائية، فهذا هو التعجرف بامتياز. كأنكن تزيدون على اتهام الشعب اللبناني “الشحاذ والبجم والطز” باتهامه بأنه شعب “غبي وقاصر” يحتاج إلى فرض “كوتا” عليه عند اختياره نوابه. توجهوا إلى الأحزاب والشخصيات السياسية التي تدعي دعمكن كي تجعل في لوائحها “كوتا” نسائية بدل من أن تفرضن على الشعب اللبناني “كوتا” إضافية على “كوتاته” الطائفية والمذهبية الموزعة على مقاعد مجلس النواب. تحمس جميع نواب المستقبل للـ”كوتا” النسائية ونواب القوات والكتائب وحركة أمل والتيار الوطني الحر، فتفضلن بمطالبتهن باعتماد “كوتا” 30% نسائية في لوائحهم؛ ليتفضلوا باعتناق ما يدعمون بالفعل لا بالقول.
أما معارضة “البندورة” المدنية، فهي مصدر قهقهتي التي ذكرت آنفاً. هل تذكرون ردة فعل الشارع المسيحي عند تهجمكم على سيارة النائب نديم الجميل؟ إنه ابن من كان الحلم لحوالي نصف اللبنانيين. ماذا برأيكم سيكون موقف الشارع الدرزي لو رميتم البندورة على سيارة النائب وليد جنبلاط؟ وماذا سيكون موقف الشارع السني إذا رميتم البندورة على سيارة النائب سعد الحريري؟ وماذا سيكون موقف الشارع الشيعي إذا رميتم البندورة على سيارة رئيس مجلس النواب؟ وهلم جرا. وتتشدقون بأنكم “مجتمع مدني”؟ لا يوجد في لبنان مجتمع مدني، بل يوجد مجموعة مزارع طائفية تدعي المدنية عند مصالحها. طالب ثلاثة قضاة بالتقارير الأمنية لدراسة الطعون المقدمة ضد التمديد لمجلس النواب، فمارس رئيس المحكمة الدستورية صلاحياته بعدم تحقيق مطالب هؤلاء القضاة. قام هؤلاء القضاة بممارسة صلاحياتهم بعدم حضور الجلسة وعدم اكتمال النصاب. وهبّ “المجتمع المدني” والقوى السياسية وصرخوا: وادستوراه… واقضاءاه! لكنهم لم يقفوا هنا بل أكملوها: قاضيين شيعيين وقاضي درزي “خربوا” المحكمة الدستورية بسوء استغلال سلطاتهم. وماذا عن رئيس المحكمة الدستورية “الماروني” الذي رفض أن يؤمن للقضاة الثلاثة مطالبهم بالتقارير الأمنية؟ لا تستطيعوا أن تقولوا مثلاً أن الانتماءات السياسية والقناعات القانونية أجبرت هؤلاء أو أولئك على اتخاذ هذا الموقف أو ذاك؟ أصريتم على استخدام الخلفيات الطائفية… وتقولون مجتمع مدني وأحزاب سياسية؟ إني لا أسمع منكم إلاّ لغة المزارع المزينة بتعابير كالأحزاب السياسية والمنظمات المدنية.
وفي الختام، لا يسعني إلا أن أتوجه إلى من يصف الشعب اللبناني بأنه شعب “شحاذ وبجم وطز” أو إلى من يعتبر أنه شعب “غبي وقاصر”، فأقول لكم أنه شعب مزقته طوائفكم ومزارعكم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وجعلت منه شعوب تريد نهش الوطن فأتت بكم ممثلين عنها سياسياً ومدنياً وإعلامياً… “كما تكونوا يولى عليكم”.
^