منذ أيام كنت أفتش عن برنامج أحضره على التلفزيون فتوقفت عند برنامج بيروت اليوم على قناة الـmtv ورأيت رجلاً حسن الهندام، حليق الذقن والشنب، يحاور بصوت هادئ. وجلست أستمع إلى الحوار، حيث لفتتني إجابته عن سؤال يطلب تبرير سبب عدائهم لحزب الله، عندما قال بمعرض حديثه: “لماذا تريدوننا أن نرضى بأن يكون الشيعة مواطنين درجة أولى والسنة مواطنين درجة ثانية؛ علماً أننا أصل هذا البلد؟” واستمر حيث تم اختتام الحلقة الحوارية بتصريح له قال فيه: “نحن لا نكفر الشيعة، بل هم يكفروننا ويشتمون الصحابة”.
وانتظرت لأسمع من هو هذا الضيف، وقلت في نفسي قد يكون من الجماعة الإسلامية، فهم دائماً يطلون علينا بأناقة ملفتة؛ لكن الذقن الحليقة جعلتني أشكك بذلك. وفي نهاية الحلقة تفاجأت عندما علمت أن الضيف هو مستشار الرئيس سعد الحريري لشؤون الشمال، الأستاذ عبدالغني كبارة. وهنا تساءلت، هل هذا هو “خطاب الاعتدال”؟ ولكن، وبعد أن هدأت قليلاً، استغربت من نفسي كيف أتفاجأ؛ أليس النواب محمد كبارة ومعين المرعبي وخالد الضاهر هم من رواد تيار المستقبل “المعتدل”؟ أما أن يقوم “مستشار” باستخدام هذه المقاربات البعيدة عن الحقائق التاريخية والاجتماعية والتي تتعارض مع الأعراف السياسية والقوانين الدستورية، فقد جعلني أتفهم أسباب الأخطاء السياسية الكبرى التي يستمر بارتكابها تيار المستقبل ورئيسه.
يا سعادة المستشار، إن النظام الطائفي اللبناني هو الذي يفرض على الجميع واجبات موحدة ومتساوية مقابل حقوق سياسية واجتماعية متفاوتة تجعل من الطوائف اللبنانية درجات. أما المواطن الدرجة الأولى بالحقوق السياسية حسب العرف فهو الماروني، والثاني فهو الشيعي، والثالث فهو السني، والرابع فهو الأرثوذوكسي، والخامس والسادس يتقاسمونهما الدروز والكاثوليك، والسابع فهو الأرمني، وهلم جرا. أما في الحقوق السياسية الدستورية الفعلية، فإن الموارنة والشيعة والسنة يتقاسمون الحقوق نفسها، وتبقى للطوائف الأخرى “الفتات”. أما في الحقوق الاجتماعية، فحدث ولا حرج: لأولئك الحق بتعدد الزوجات ولهؤلاء لا يحق لهم إلا بزوجة واحدة، لأولئك الحق بالطلاق ولهؤلاء لا طلاق ولا من يحزنون (زواج أبدي)، لأولئك الحق بالوصية ولهؤلاء لا وصية لوارث، لأولئك الحق بتوريث الإبنة الوحيدة ولهؤلاء للذكر مثل حظ الأنثيين، إلخ.
أما أن تدعي، يا سعادة المستشار، أنه من حقوقكم المكتسبة أن تكونوا مواطنين درجة أولى لأنكم “أصل البلد”، فاسمح لي بأن أسجل تحفظي. إنني أقر بأن لبنان الكبير بحدوده الحالية لما رأى النور لو لم يقل الزعيم اللبناني والعربي الكبير الراحل الرئيس رياض الصلح: فليكن لبنان… فكان لبنان بعد 23 سنة من إعلانه. فهو الذي رضي بالتنازل عن حقوق طائفته من أجل لبنان، وهو الذي أقنع الجماهير الإسلامية بجميع مذاهبها بأهمية قيام لبنان الرسالة الديمقراطي النهائي، وأولوية قيامه على كل ما عداه من حقوق طائفية؛ إنه عن جدارة صانع لبنان الحديث. ولكنه لو قارب وطنيته بالطريقة التي تقوم سعادتك بمقاربتها، لما عرفنا لبنان الـ10452 كلم مربع، وكان ما زال المنتدب الفرنسي في ظهرانينا لحماية المسيحيين، ومسلمي لبنان يطالبون بالوحدة مع سوريا، ولبنان لا يعدو إعلاناً على ورق منذ العام 1920.
أما تحفظي التاريخي فهو أن تعتبروا أن أحقيتكم بالمواطنية الأولى بسبب أنكم “أصل البلد”، وكأني بالآخرين “دخلاء على البلد”؛ كلنا “أصل البلد”. و”البلد” الذي أعتقد أن سعادتكم تشيرون إليه هو لبنان، ما رأيك لو أتاك مؤرخاً علمياً وقال لسعادتك: إن لبنان الحديث قد تأسس من مجموعة مناطق جغرافية هي منطقة المردة (الشمال الماروني من بشري وزغرتا وإهدن وضواحي عكار وطبعاً وادي القديسين وغيرها) وولاية عكار وولاية بيروت وولاية طرابلس الشام وولاية صيدا وسهل البقاع وبعلبك وجبل عامل وجبل لبنان (الذي كان يضم بالإضافة لمحافظة جبل لبنان الحالية قضائي جزين والزهراني وزحلة ووادي التيم). ماذا ستكون إجابتك لو سأل سعادتك هذا المؤرخ: لماذا اتخذتم اسم لبنان لوطنكم وليس اسم طرابلس مثلاً (الجمهورية الطرابلسية)، أو بيروت (الجمهورية البيروتية)، أو جبل عامل (الجمهورية العاملية)، إلخ؟ وماذا يجب أن يكون جوابي أنا لهذا المؤرخ عن أحقية المواطنية الأولى من منطلق من هو “أصل البلد لبنان”. وهل يحق لي أن أسألك لماذا تريد للسنة مثلاً المواطنية الأولى وللدروز أو الكاثوليك المواطنية الخامسة أو السادسة؟ هل هذا هو منطلقكم في “لبنان أولاً”؟
أما أن “تنبش” لي سعادتكم ما حصل من انشقاق ديني منذ 1400 سنة ونيف، وتبني عليه مواقفك السياسية، فهذا هو المرفوض جملة وتفصيلاً. عندنا في جبل “لبنان” قول شهير: كل واحد على دينو الله يعينو. لا شأن لي باحاسيسك الدينية ولا شأن لك بانتمائي الديني، الأديان تميزنا اجتماعياً ولكن الهوية اللبنانية توحدنا سياسياً ووجودياً. الله في السماء والأرزة على الأرض، أتعبد إله السماء ولكنني أعمل لمصلحة رمزي وهويتي على الأرض… لبنان وأرزته الخالدة.
**