تُعدّ القرنة السوداء، أعلى قمة في لبنان والشرق الأوسط بارتفاع يناهز 3088 مترًا، من أبرز المعالم الطبيعية والبيئية في البلاد. فهي لا تشكّل مجرّد معلم جغرافي فريد، بل تُعد خزانًا مائيًا حيويًا وموقعًا بيولوجيًا غنيًا، يسهم في توازن النظام الإيكولوجي في شمال لبنان ويمتد أثره إلى سائر الأراضي اللبنانية. وفي ظلّ تنامي التهديدات البيئية والتعديات على الطبيعة، تبرز الحاجة الملحّة إلى تدخل الدولة اللبنانية بكل سلطاتها السيادية من أجل إعلان القرنة السوداء محمية طبيعية وثروة وطنية لا تمس، بعيدًا عن التجاذبات المناطقية والطائفية التي تطغى على المشهد.
في هذا السياق، أثار القرار الإعدادي بشأن الخلاف العقاري على القرنة السوداء بين قضاءي بشرّي والضنّية ردود أفعال متباينة. فقد رفضه أهالي الضنّية بشدّة، بينما رحّب به أهالي بشرّي واعتبروه بمثابة تثبيت لتبعية القرنة السوداء عقاريًا لبشرّي، حتى أن بعضهم ذهب إلى حد قرع أجراس الكنائس احتفالًا. وقد صدر القرار عن قاضية الشؤون العقارية في الشمال تيريز غسان مقوّم، ما أضفى على المسألة بعدًا قانونيًا جديدًا، وإن كان القرار لا يزال في مرحلته الإعدادية وقابلًا للطعن.
غير أنّ هذا النزاع العقاري، مهما بلغ من الحدة، لا يجب أن يحجب البعد الأهم: البعد البيئي والوطني للقرنة السوداء. فهذه القمة لا تخصّ فئة دون أخرى، ولا منطقة دون أخرى، بل هي مصلحة وطنية عليا وجزء لا يتجزأ من الإرث الطبيعي اللبناني الذي ينبغي حمايته بكل الوسائل. إن استمرار التعديات المتمثلة بتفجير الصخور، شق الطرقات العشوائية، أو البناء غير المرخّص، يُعد انتهاكًا مباشرًا لثروة طبيعية لا يمكن تعويضها، كما يشكّل خرقًا فاضحًا للاتفاقيات البيئية الدولية التي التزم بها لبنان، لا سيّما اتفاقية التنوع البيولوجي واتفاقية حماية الجبال.
أمام هذا الواقع، لا بدّ من موقف واضح وحاسم من الدولة اللبنانية، لا يكتفي بمعالجة النزاع العقاري، بل يتعدّاه إلى تثبيت سيادتها البيئية من خلال إصدار مرسوم يُعلن القرنة السوداء محمية طبيعية وطنية. ويتوجب أن يترافق ذلك مع منع صارم لأي نشاط يهدد البيئة في تلك المنطقة، ونشر قوى أمنية لحمايتها، وتشكيل لجنة إدارة بيئية تشاركية تضم ممثلين من المجتمع المحلي في الضنية وبشري، تحت إشراف وزارة البيئة وسائر الجهات المختصة.
لقد آن الأوان للتعامل مع القرنة السوداء بوصفها رمزًا للوحدة البيئية لا الانقسام الطائفي، ومساحةً للتكامل الوطني لا التناحر المناطقي. إن حماية هذه القمة ليست ترفًا بيئيًا، بل واجب وطني وأخلاقي تجاه الأجيال القادمة. فلنكن على قدر هذا الواجب، ولتكن هذه المحمية المستقبلية عنوانًا لعودة الدولة إلى دورها الحقيقي في حماية المصلحة العامة، وصون ما تبقّى من طبيعة لبنان.
**