قد يبدو هذا السؤال بديهيًا، لكن إجابته معقدة في ظل واقع عالمي وإقليمي تتزايد فيه التوترات، وتنهار فيه فرص الحلول العادلة. فمع اشتداد الحروب وتعمق الانقسامات، يصبح السلام مطلبًا إنسانيًا ملحًّا، لكنه في ذات الوقت يبدو أبعد من أي وقت مضى. في الشرق الأوسط، تتراكم الملفات الساخنة دون حلول، وتتغذى الصراعات على الغطرسة السياسية والتدخلات الدولية التي غالبًا ما تخدم المصالح لا المبادئ.
الحرب بين إيران وإسرائيل لم تعد مجرد حرب ظلّ، بل تحولت إلى مواجهة عسكرية مباشرة، بعدما نفّذت الولايات المتحدة، بتنسيق مع إسرائيل، ضربات على المنشآت النووية الإيرانية، ما دفع إيران إلى الرد بقوة على قواعد ومصالح أميركية في المنطقة. واستهدفت إيران قاعدة العديد الأميركية في قطر، في تطور غير مسبوق جرّ شظايا الحرب إلى قلب منطقة الخليج. هذا التصعيد مثّل نقطة تحول، إذ تجاوزت المواجهة حدود المناوشات غير المباشرة، ودخلت في مرحلة الصدام المفتوح، مع ما يحمله ذلك من أخطار كبرى على الأمن الإقليمي والدولي. الدعم الأميركي لإسرائيل لم يعد دعمًا سياسيًا وعسكريًا فقط، بل بات جزءًا من عمل عسكري مشترك، مما يؤكد أن الحرب أصبحت ثلاثية الأطراف، وتُدار بعقلية المواجهة لا التهدئة. دخول دول الخليج في دائرة النيران، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، يفتح الباب على مرحلة شديدة الخطورة، ويزيد من تعقيد أي مساعٍ محتملة للوساطة أو التهدئة.
أما الحرب في أوكرانيا، فهي جرح أوروبي مفتوح لا يبدو أن العالم مستعد لشفائه. ما بدأ كعملية عسكرية روسية توسّع إلى صراع دولي مفتوح بين روسيا من جهة، والغرب بقيادة أميركا وأوروبا من جهة أخرى. تدفّق السلاح، والعقوبات، والخطاب السياسي التصعيدي، كلها عوامل تُطيل أمد الحرب وتدفع ثمنها الشعوب، خصوصًا الأوكرانيين الذين يدفعون ثمن حسابات جيوسياسية أكبر من أرضهم بكثير.
في سوريا، ورغم الحديث عن انتهاء المعارك الكبرى، فإن بقاء تنظيم “داعش” كخلايا نائمة وكمفهوم فكري، يعكس أن المشكلة لم تنتهِ فعليًا. غياب حل سياسي شامل، واستمرار الفوضى الأمنية، ووجود قوى إقليمية ودولية متعددة على الأرض، كلها تؤسس لمرحلة جديدة من التوتر المزمن، حتى وإن كانت من دون ضجيج الحروب المباشرة. الفقر، الطائفية، والتهميش لا تزال بيئة خصبة لأي تنظيم متطرف يمكن أن يعيد نفسه تحت اسم مختلف.
القضية الفلسطينية تبقى قلب المأساة، وجذر معظم النزاعات في المنطقة. لا يزال الاحتلال الإسرائيلي يتمدد، في ظل دعم أميركي غير مشروط، خاصة في عهد ترامب، الذي طرح ما سُمّي بـ”صفقة القرن”، وهي صفقة تجاهلت الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية المشروعة. القدس، اللاجئون، الدولة، الحدود، كل هذه الملفات تم اختزالها لصالح تكريس هيمنة إسرائيل وفرض الوقائع على الأرض. في مثل هذا المناخ، لا يمكن الحديث عن سلام حقيقي، بل عن محاولات تسويق الاستسلام كحل.
وفي لبنان، تستمر الانتهاكات الإسرائيلية اليومية، من اختراقات جوية إلى استمرار احتلال مزارع شبعا. إسرائيل تبرر وجودها بحجة الدفاع عن النفس، بينما يعتبر اللبنانيون أن الاحتلال والممارسات العدوانية هي السبب المباشر في التوتر. حزب الله من جانبه يعلن حالة الاستعداد الدائم، ما يجعل الجنوب اللبناني جبهة مفتوحة في أي لحظة، ويتحول الشعب اللبناني إلى رهينة بين حرب قائمة وسلام مفقود.
وفي هذا السياق، يُطرح سؤال حول السلام الذي نادى به دونالد ترامب. ذلك “السلام” كان أشبه بخريطة طريق للتطبيع دون عدالة، وتصفية للقضية الفلسطينية بدل حلها. تجاهل الحقوق، وتكريس التفوق الإسرائيلي، والتطبيع المجاني دون مقابل، كلها كانت من عناصر هذا المشروع الذي سمّي سلامًا زورًا. فالسلام الذي لا ينطلق من مبدأ العدالة، ليس إلا تمديدًا لعمر الأزمات.
ختامًا، يبدو أن الطريق إلى السلام ما زال طويلاً، ليس لأن الشعوب لا تريده، بل لأن موازين القوى العالمية لا تسمح به حتى الآن. لا يمكن الحديث عن السلام في ظل الاحتلال، ولا في ظل العقوبات الجماعية، ولا في ظل الإملاءات من الخارج. السلام الحقيقي لا يُفرض، بل يُبنى على العدالة والاحترام المتبادل، وعلى الاعتراف بالحقوق قبل المصالح. وحتى يحين ذلك، ستظل المنطقة رهينة لصراعات لا تنتهي، وآمال لا تتحقق.