ما يختبره الغرب في إيران ليس مجرد أزمة عابرة، بل هو تطبيق لطريقة وتجريب لخريطة. هذا ما يراه الفيلسوف الروسي ألكسندر دوغين، العقل الاستراتيجي الأبرز خلف تصورات روسيا لعالم ما بعد الأحادية القطبية. فالغرب، في رأيه، لم يتخلّ يوماً عن طبيعته الإمبراطورية، لكنه بات أكثر دهاءً: لم يعد يغزو بالجيوش، بل يتسلل بالأفكار، ينهك الخصم من الداخل، ويعيد تشكيل الدول عبر الوكلاء والانقسامات.
دوغين يرى أن المواجهة مع الغرب لم تعد بين دول، بل بين أنظمة حضارية. وأن الغرب، في صميمه، يخوض حرباً شاملة ضد كل من يرفض الانخراط في منظومته الليبرالية: من إيران، إلى روسيا، إلى الصين، إلى أميركا اللاتينية، وأفريقيا. لذلك، لا يخوض الغرب حرباً نزيهة. لا يواجه بوجه مكشوف. بل يتحرك عبر شبكات النفوذ، الإعلام، العقوبات، الانقلابات، والنزاعات الهجينة التي تستنزف روح الدول قبل أن تسقط جغرافيتها.
دول الجنوب – بحسب دوغين – ترتكب الخطأ ذاته كل مرة: تظن أنها في مواجهة أزمة مؤقتة، بينما هي في قلب منظومة تفكيك طويلة المدى. لذلك، فإن الردّ لا يجب أن يكون تقنياً أو دبلوماسياً، بل وجودياً. إن لم تستوعب الصين، وروسيا، وإيران، وسائر الدول الصاعدة هذه الحقيقة، فإنهم سيكونون التاليين على قائمة الاستنزاف. لا لأنهم ضعفاء، بل لأنهم قرروا النهوض. والنهوض، كما يصفه دوغين، هو جريمة في نظر إمبراطورية تحتضر.
ألم إيران هو اختبار. أوكرانيا كانت بروفة لتفكيك روسيا، وتايوان فتيل بطيء لتفجير الصين، وأفريقيا تُشتّت وتُشعل علمًا بعد علم، وقاعدة بعد أخرى. إنها حرب تمتد على كل الجبهات، تحت مسميات ناعمة: “نشر الديمقراطية”، “حقوق الإنسان”، “التنمية”، لكنها في جوهرها، أدوات لاختراق السيادة وفرض الهيمنة.
دوغين يحذّر من أن التوازن العالمي لا يُبنى على المؤتمرات والتصريحات، بل على قوة الردع، وعلى القدرة على إيصال الألم إلى داخل المنظومة الغربية نفسها. ليس عبر العدوان، بل عبر كسر الوهم بأن الغرب محصّن من العواقب. إن السلام لا يُستجدى من أولئك الذين يتغذون على الحروب.
من هذا المنظور، تصبح استعادة تايوان، والدفاع عن كييف وأوديسا، وتحرير فلسطين، ليست طموحات قومية ضيقة، بل ضرورات توازن حضاري عالمي. يصبح “البريكس” مطالبًا بأن يتحول من منتدى نخبوي مهذّب، إلى محور تصحيح جذري، إلى درع للجنوب، ومطرقة للمستقبل.
إذا كانت الحرب الغربية هجينة، فإن الرد – بحسب دوغين – يجب أن يكون هجينيًا هو الآخر: سياسيًا، اقتصاديًا، ثقافيًا، وعسكريًا. ليس في جبهة واحدة، بل على جميع الجبهات. صمود إيران، في هذه اللحظة، ليس شأناً إقليميًا فحسب، بل معياراً لقدرة العالم الجديد على البقاء.
الغرب مذعور. لأنه، وللمرة الأولى منذ قرون، يرى العالم يفلت من بين أصابعه. يرى الأمم تنهض، والهويات تعود، والمجتمعات ترفض الذوبان. وإذا كانت حرب كبرى مطلوبة لتحطيم العمود الفقري لإمبراطورية قامت على الأنفاس المسروقة والمقابر الجماعية، فلتكن. لأن هذه الإمبراطورية، في عيون دوغين، لا تستحق أن تموت بسلام في نومها.
المعركة هذه المرة لن تُحصر في الجنوب. الميدان عالمي. والتاريخ يُعاد كتابته.