في زمنٍ تتقاذفه الأزمات وتُثقله الموروثات الاقتصادية الثقيلة، برز أداء حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري ونوابه كحالة استثنائية في مقاربة العمل النقدي والمالي في لبنان. فخلال ولايتهم، التي اتّسمت بالشفافية والهدوء المهني، استطاع الفريق الحاكم أن يفرض مساراً إصلاحياً رغم العقبات السياسية والضغوطات المصرفية المتعددة.
من أبرز الخطوات التي اتخذتها الحاكمية في عهد منصوري كانت وقف تمويل الدولة من أموال مصرف لبنان، وهو نهج يُعدّ كقطيعة حاسمة مع عقودٍ من الممارسات المالية الخاطئة التي تسببت بتفاقم العجز المالي وتآكل احتياطات المصرف المركزي. هذا القرار شكّل تحوّلاً استراتيجياً، حيث أُديرت السياسة النقدية بحذر ودون اللجوء إلى طباعة العملة أو تمويل العجز، ما ساعد في تثبيت نسبي لسعر الصرف رغم الضغوطات.
واحدة من أكثر القرارات الجريئة التي تبنّتها الحاكمية كانت إلغاء منصة «صيرفة»، التي كانت تُستخدم من قبل حوالى 450 ألف شخص، ما كان يؤدي إلى استنزاف كبير في السيولة النقدية. قرار الإلغاء أظهر أن الاستقرار النقدي لا يحتاج إلى منصات موازية أو «أرانب نقدية»، بل إلى سياسات واضحة، شفافة، ومنضبطة.
في وجه الخطابات السياسية التي طالما تحدّثت عن «حصار مالي غربي»، جاءت نتائج سياسات الحاكمية لتفنّد هذه الادعاءات. إذ إن مصرف لبنان، بمجرد أن أظهر التزاماً بالإصلاح والشفافية، استطاع استعادة علاقاته مع المصارف المراسلة الدولية، التي كانت قد أوقفت تعاملها مع لبنان في السابق. هذا التطوّر لم يكن نتيجة تدخلات سياسية، بل ثمرة أداء مؤسساتي مهني أثبت أن المشكلة لم تكن خارجية، بل داخلية بحتة.
في وقتٍ استهلك فيه النقاش العام وعوداً كثيرة بشأن أموال المودعين، قامت الحاكمية باتخاذ خطوات عملية عبر تطبيق التعميمين 158 و166، ما أتاح إعادة نحو 3.6 مليار دولار إلى حوالى 464 ألف مودع، بينهم أكثر من 163 ألف حساب جرى تسديدها بالكامل. ومع نهاية شباط الماضي، بات بإمكان بعض المودعين القول إنهم استعادوا ما يقارب 30 ألف دولار من ودائعهم – وهي خطوة لم تكن ممكنة لولا اعتماد مقاربة عملية ومدروسة.
هذه الإجراءات الإصلاحية، ورغم أنها صبت في مصلحة الاقتصاد الوطني والمودعين، لم تلقَ ترحيباً في أوساط بعض أصحاب المصارف، الذين رأوا فيها قيوداً على حرية استخدامهم للودائع الجديدة، وتهديداً لنموذج ربحهم السابق. فقد منعت الحاكمية توزيع الأرباح، وفرضت تقييم موجودات المصارف، بما فيها العقارات، وفق السعر الحقيقي للدولار، ما كشف الصورة المالية الحقيقية للقطاع المصرفي.
تميّزت ولاية وسيم منصوري ونوابه بتنسيق مستمر وفعّال مع الحكومة، بعيداً عن التجاذبات السياسية. فالإدارة النقدية كانت تُدار بمهنية، فيما كانت الحكومة على اطلاع دائم بالإجراءات المتخذة، الأمر الذي ساعد في دعم السياسات الجديدة والبناء عليها.
رغم أن ولاية وسيم منصوري بالإنابة كانت قصيرة نسبياً، فإنها حملت في طيّاتها رسائل عميقة حول ما يمكن أن يفعله النهج الإصلاحي المهني في وجه التحديات الكبرى. وبين وقف التمويل العشوائي، واستعادة العلاقات الخارجية، وحماية المودعين، وفرض الانضباط على القطاع المصرفي، تركت هذه الحاكمية بصمة يصعب تجاهلها، وبات يُنظر إليها كنموذج قابل للتكرار إذا ما وُجد القرار السياسي الداعم والإرادة الوطنية الجامعة.