لا يحتاج رئيس الحكومة في لبنان إلى برنامج اقتصادي أو خطة إصلاحية ليَحكُم، بل إلى مهارة واحدة فقط: كيف ينجو من فَخّ التوزير القسري من دون أن ينتهي دوره قبل أن يبدأ؟ منذ لحظة تكليفه، تتحوّل مهمّته من تشكيل فريق عمل قادر على مواجهة الانهيار، من دون أن يُتاح له حتى تحضير برنامج عمل واقعي، إلى عملية هندسية معقّدة لضمان الولادة السياسية بأقل خسائر ممكنة. ليس أمامه مساحة للمناورة، فكل قرار يُحسب عليه، وكل اسم يُرفض قبل أن يُطرح.
الحُكم ليس بيده، ولا الصلاحيات أيضاً. الثقة البرلمانية ليست مكافأة على حسن الأداء، بل ورقة ضغط تُمنح لِمَن يرضخ وتُحجَب عمَّن يجرؤ على التفكير بخيارات خارج المرسوم له. عليه أن يوازن بين مطالب الأحزاب التي ترفض أن تُستبعد، وشروط الخارج الذي يطالب بحكومة «إصلاحية»، فيما أدوات التنفيذ محكومة بسقف المعادلة التي لم تتغيّر منذ عقود: رئيس الوزراء ليس أكثر من واجهة تُدار من خلف الستار.
تاريخياً، الثقة البرلمانية كانت تُمنح للحكومات بناءً على برامجها الإصلاحية أو خططها الاقتصادية. لكن في لبنان، الثقة ليست سوى عقد إذعان بين رئيس الحكومة ومَن يملك قرار بقائه أو إسقاطه. كل وزير هو بطاقة تمثل قوة سياسية، وكل حقيبة وزارية هي خط تماس بين المتنافسين على السلطة. ومَن يرفض الخضوع، يسقط قبل أن يبدأ!
اليوم، يعيش الرئيس المكلّف نواف سلام المعضلة عينها التي عاشها من قبله رؤساء الحكومات السابقون: يُريد حكومة مستقلّة، لكن كيف ينال الثقة إن لم يُشرك القوى التقليدية؟ وكيف يبني دولة إن كانت معايير التوزير لا تستند إلى الكفاءة، بل إلى من يملك الأكثرية التي تستطيع أن تُسقِط الحكومة قبل أن تتنفّس؟
المعضلة التي يواجهها سلام اليوم هي أنّه، على رغم من التطبيل الدولي لتكليفه، لن يكون قادراً على تشكيل حكومة من دون توافق القوى الكبرى، لا محلياً فقط، بل إقليمياً أيضاً. فكل طرف يضع شروطه تحت الطاولة:
• الثنائي يُريد ضمانات بعدم المسّ بمعادلة النفوذ القائمة.
• المعارضة المسيحية ترفض الدخول في حكومة تضمّ وزراء تابعين للحزب.
• الحراك المدني فَقدَ أي قدرة على فرض توازن جديد في المشهد.
• المجتمع الدولي يطالب بالإصلاح، وبدأ يفرض معادلاته تدريجاً عبر الضغط الديبلوماسي والاقتصادي، لكنّه لا يزال يترك للأطراف الداخلية هامش المناورة لضمان توازن المصالح.
في ظلّ هذه التعقيدات، يواجه نواف سلام خيارَين:
1 – الخضوع إلى منطق التوزير القسري، بالتالي تكرار تجربة كل رؤساء الحكومات الذين سبقوه، وتحقيق «إنجاز» وهمي بولادة حكومة مشلولة.
2 – الاعتذار مبكراً قبل أن يُستهلك اسمه في سوق التنازلات السياسية، والخروج بسمعة رئيس وزراء رفض لعبة الابتزاز.
في أي نظام ديموقراطي، يكون الشعب هو مصدر الشرعية. لكن في لبنان، المشهد السياسي محكوم بمعادلة «التكيّف أو الإقصاء»، إذ يُفرض على رئيس الحكومة التوافق مع القواعد الموضوعة مسبقاً، أو مواجهة الاستبعاد التام من المشهد.
التجربة تُثبِت أنّ أي محاولة لكسر معادلة النفوذ القائمة تؤدّي إمّا إلى إفشال الحكومة مبكراً، أو استقالة رئيسها تحت الضغط. السياسة اللبنانية لا تمنح هامشاً للحُكم المستقل، بل تسير وفق منطق السيطرة والتوازن الدقيق للقوى الفاعلة.
أمّا في لبنان، فالشعب متفرّج على لعبة توزيع المغانم، فيما لا تزال مفاتيح السلطة خارج يَد رئيس الحكومة، بل عند مَن يملك أوراق اللعبة الحقيقية، ألا وهي:
• الكتل النيابية التي تحدّد مصير الحكومة قبل ولادتها.
• العواصم الإقليمية والدولية التي تحرّك المسار السياسي بلمسة هاتفية.
لم تَعُد المشكلة فقط في هوية مَن يرأس الحكومة، بل في كون المنصب نفسه قد تحوّل إلى موقع رمزي يخضع إلى إرادات القوى الكبرى داخلياً وخارجياً. رئيس الوزراء في لبنان يجد نفسه، بمجرّد تكليفه، أمام معادلة محكمة تفرض عليه الالتزام بقواعد اللعبة أو المخاطرة بالتهميش.
لم تعد المناورة ممكنة كما كانت في السابق، بل باتت كل خطوة محسوبة ضمن توازنات لا يستطيع كسرها من دون تداعيات مباشرة. ومع كل محاولة لإعادة تعريف دور رئيس الحكومة، يجد نفسه مجبراً على العودة إلى نقطة الصفر، حيث لا قرار يُتخذ من دون توافق مسبق بين اللاعبين الأساسيّين.
لكن في المشهد الحالي، عاد لبنان إلى دائرة الاهتمام الدولي، لكن بأسلوب مختلف. لم تَعُد المملكة العربية السعودية منكفئة عن المشهد، بل عزّزت حضورها، وهو ما ظهر جلياً في زيارة وزير خارجيّتها إلى بيروت. هذا التحرّك لم يكن منفصلاً عن الضغوط الغربية الأوسع، التي تهدف إلى إعادة التوازن في المشهد السياسي، خصوصاً في ما يتعلق بمسألة وزارة المالية.
في البداية، كان نواف سلام ميّالاً للإبقاء على هذه الوزارة بيد الثنائي، لكنّه وجد نفسه أمام ضغوط متزايدة من السعودية والقوى المسيحية والإصلاحيّين في البرلمان، ما أجبره على إعادة حساباته.
التحوّلات الإقليمية لعبت دوراً في تعقيد المشهد، فمع عودة الرئيس ترامب إلى السلطة، تصاعدت الضغوط الخارجية على عملية تشكيل الحكومة. لم يَعُد الدعم الخارجي مفتوحاً، بل بات مشروطاً بإصلاحات ملموسة، وأي تسوية لا تراعي هذه المعادلة ستؤدّي إلى عزلة لبنان سياسياً واقتصادياً.
في الماضي، كانت العواصم الكبرى تمارس ضغوطاً مباشرة لفرض حلول. أمّا اليوم، فلبنان يُترك لصراعاته الداخلية، بينما يُستخدم كورقة تفاوضية في صفقات إقليمية أوسع.
من الناحية النظرية، الحل واضح: حكومة مستقلّة فعلياً، تُمنح الثقة على أساس برنامج عمل، لا على أساس توزيع المغانم. لكن من الناحية العملية، هذا السيناريو غير قابل للتحقق في ظل التوازنات الحالية. فالحل الوحيد المتاح أمام أي رئيس حكومة جديد، هو إمّا القبول بشروط اللعبة، أو الخروج منها قبل أن يتمّ استخدامه ككبش فداء في صراع أكبر منه.
إذاً، هل سينجو رئيس الحكومة من القفص؟ أم أنّ اللعبة محسومة مسبقاً، وسينضمّ إلى نادي رؤساء الحكومات المكلّفين الذين لم يُكتب لهم أن يعبروا عتبة السراي، كما حدث مع مصطفى أديب؟
هل سينجو رئيس الحكومة من القفص؟ أم أنّ اللعبة محسومة مسبقاً، وسينضمّ إلى نادي رؤساء الحكومات المكلّفين الذين لم يُكتب لهم أن يعبروا عتبة السراي؟