معاناة لبنان مع إسرائيل ليست وليدة اليوم، بل تمتد إلى العام 1948، ومباشرةً بعد احتلال فلسطين وتهجير سكانها، عندما أرغمت أبناء القرى السبع اللبنانية: تبريخا، صلحا، المالكية، النبي يوشع، قدس، هونين وإبل السقي التي تحولت من الوصاية الفرنسية إلى البريطانية في العام 1923، على الهجرة إلى الداخل اللبناني.
وفي العام 1965 قصفت إسرائيل روافد نهر الاردن ومنها الحاصباني والوزاني، واستتبعتها باعتداء مماثل لكن أقل عنفاً في العام 1967، ولم تسلم مضخات المياه في هذه المنطقة من استهداف في العام 2002، وفي السابع من شباط 2024. وبالانتقال إلى العام 1968 نفّذت وحدة خاصة من الجيش الإسرائيلي في مطار بيروت إنزالاً بقيادة رافاييل ايتان، حيث دمّرت بعملية صاعقة وسريعة 13 طائرة تابعة لشركة «طيران الشرق الاوسط»، كان ذلك في 28 كانون الأول. وتشاء المصادفات أن يكون إيتان أحد مهندسي الكبار للاجتياح الاسرائيلي للبنان في العام 1982.
وفي 8 تشرين الأول 1973، قصفت الطائرات العبرية راداراً متطوراً ذا وظائف استراتيجية على قمة «الباروك» يحمل اسم: «TAG LES SEMEURS» من نوع MPR. وعلى مثال «ما أشبه اليوم بالبارحة»، فقد زرعت تل أبيب خلايا تجسسية في بيروت وسائر المدن اللبنانية جرى كشفها واعتقال رؤوسها المدبّرة. ثم توالت سبحة الاعتداءات على سائر مناطق الجنوب، وما بعد الجنوب عندما قامت وحدة «كوماندوس» إسرائيلي باغتيال القادة الفلسطينيين الثلاثة في شارع فردان: كمال ناصر، كمال عدوان ويوسف النجار العام 1973. إلى أن حصل الاجتياح الأول في آذار 1978 الذي كان السبب في صدور قراري مجلس الأمن الدولي الرقم 425 والرقم 426، وتشكيل القوة الدولية الأولى لحفظ السلام في جنوب لبنان. لم يطل الزمن حتى كان الاجتياح الثاني في حزيران 1982، والذي احتلت فيه بيروت، وهي أول عاصمة عربية تحتلها إسرائيل، وتسبب هذا الاحتلال بإطلاق مقاومة ضدّه أدّت الى انسحاب الجيش الإسرائيلي من بيروت وضواحيها إلى نهر الأولي، قبل أن ينكفئ إلى الشريط الحدودي ويبقى فيه حتى العام 2000، عندما انسحب بفعل ضغوط العمليات التي قادها مقاتلو «حزب الله».
ثم في حرب تموز العام 2006 عندما أخفق إيهود اولمرت في خطته الرامية إلى «سحق» الحزب – كما ادّعى- وحمله على الاستسلام انتقاماً من هزيمة العام 2000، ومن سائر العمليات التي قام بها في الشريط الحدودي، وعملية تفجير مقر الحاكم العسكري الاسرائيلي في صور وغيرها من الأماكن، عدا عن الغضب الذي انتاب تل أبيب من إسقاط إتفاق 17 أيار 1983. وعلى رغم من التحرير وإلزام إسرائيل بالانسحاب مهزومة في حرب تموز، فإنّها لا تزال تحتل أراضي لبنانية في بلدة الغجر، وفي الهبارية، كفرحمام وكفرشوبا، وتتمركز في 13 نقطة على الخط الأزرق الممتد من مزارع شبعا (جنوب-شرق) إلى بلدة الناقورة (جنوب-غرب) في قضاء صور- محافظة الجنوب. ولعلّ مزارع شبعا هي من بين أهم المناطق التي المحتلة نظراً لموقعها الاستراتيجي، ومواردها الطبيعية ووفرة مياهها.
وعلى سيرة المياه، فإنّ دراسة علمية موضوعية معتمدة لدى الهيئات الأممية أعدّها المدير العام السابق للاستثمار في وزارة الطاقة والمياه الخبير الدولي الدكتور فادي قمير، كشفت أنّ إسرائيل تستولي على 135 مليون متر مكعب من المياه، عدا الذي يذهب هدراً لعدم تنفيذ خطة المياه التي أعدّها قمير نفسه. وانطلاقاً من هذه المعطيات، يمكن القول إنّ الحساب ما زال مفتوحاً بين لبنان وإسرائيل، وهو لن يُغلق طالما أنّ الصراع حول القضية الفلسطينية لا يزال دائراً ويتأرجح بين مدّ وجزر. وفي ظل عدم القدرة على تنفيذ قرارات مجلس الأمن الدولي ذات الصلة بهذه القضية: 194/48 ،242, 338 وسواها من القرارات وصولاً الى الرقم 1701 الذي تدّعي إسرائيل عدم تنفيذ «حزب الله» له، فيما الواضح انّها هي تعمد إلى خرقه من خلال طلعاتها الجوية فوق لبنان، ودورياتها البحرية فيه، وتجاوزاتها الدائمة على طول الخط الأزرق، وبناء أبراج المراقبة المزودة أحدث معدات التجسس في محاذاة الحدود.
واليوم وبعد كل هذا الدمار والمواجهات العنيفة، هل يمكن القول إن هناك إمكاناً لوقف إطلاق النار والعمليات الحربية في وقت قريب؟
في الواقع، إن الجواب هو بين النفي والجزم. وإنّه إذا نظرنا إلى الوقوعات الميدانية نرى أنّ «حزب الله» قد مُني بخسائر فادحة باتت معروفة، وهو منهك، لكنه لم يفقد حيويته الميدانية ولا يزال قادراً على استهداف إسرائيل بأسلحة نوعية وتكبيدها اضراراً جسيمة في الأرواح والممتلكات، وهو إذا تيسّر له وقفاً للنار لا يرمي إلى محاصرته وتقليم أظافره، فلن يرفض. بمعنى انّه يريد وقفاً فورياً لإطلاق النار، وتطبيق القرار الرقم 1701 من دون أي إضافة عليه وتحوير لمضمونه. اما إسرائيل التعبة، لا ترفض ـ على الرغم من مكابرة رئيس وزرائها وتسريبه معلومات حول قرب انهيار الحزب ـ وقفاً لإطلاق النار، مشترطة تطبيق القرار الدولي الرقم 1701 بنسخة مزيدة تتضمن الحق في القيام بدوريات استكشاف وتحقق ودهم ساعة تريد، وحتى إلى ما بعد جنوب الليطاني، والتدخّل في معرفة هويات أفراد الجيش اللبناني الذين سينتشرون في منطقة عمليات «اليونيفيل»، إضافة إلى عدد من الشروط المنافية لأبسط قواعد السيادة، وهي ستكون مرفوضة حتماً من الجانب اللبناني الرسمي. من هنا، فإنّ الاقتراح الذي تراه الدولة اللبنانية منطقياً يتمثل بالآتي:
أ- الوقف الفوري لإطلاق النار.
ب- تطبيق القرار الرقم 1701 لجهة وقف الاعمال القتالية من الجانبين.
ج- خلو منطقة جنوب الليطاني من أي وجود مسلح باستثناء قوات الجيش و«اليونيفيل».
د- تعزيز قوة الجيش اللبناني في منطقة عمليات «اليونيفيل» بـ5 آلاف عنصر وتزويده بالعتاد الذي يمكنه من أداء دوره.
هـ- تعزيز قوات «اليونيفيل» عدة وعتاداً، وتكليفها دوراً أوسع في المراقبة وضبط الأوضاع.
و- إنسحاب القوات الإسرائيلية من المواقع التي توغلت فيها في منطقة الحافة الحدودية.
ثمة من يرى أنّ الحلول التي يجري التداول بها تأخذ الطابع الموقت: الرئيس الأميركي يريدها كإنجاز يُسجّل في خانة «الديموقراطيين»، نتنياهو لالتقاط أنفاسه بعد الخسائر التي تكبّدها جيشه ولا يزال على ارض المعركة، و«حزب الله» لإعادة ترتيب صفوفه وتقدير الموقف على الارض، والإفادة من الوقت الذي تتيحه الهدنة التي يُحكى عنها، والتحسب لما تخطّط له إسرائيل. وفي هذا الوقت تستمر آلة الموت في اتباع نهج التدمير الشامل والمجازر من دون التفرقة بين مدني ومقاتل، خصوصاً أنّ «أجندة الكابينيت «توسع» بنك أهدافها في كل الاتجاهات. على أنّ السؤال الأكبر يبقى: هل الحل الذي يُروّج (بضمّ الياء) له حقيقة، أم أنّه مجرد وهم لأسباب تتصل بالانتخابات الرئاسية الاميركية، أو لضرورة «البروباغندا» التي تبرع فيها إسرائيل عندما تعمد إلى شراء الوقت والهروب إلى الامام؟