في لحظة مليئة بالتأمل والصلاة، عاد جثمان الكاردينال البطريرك كريكور بيدروس الخامس عشر أغاجانيان، أحد أعظم قادة الكنيسة الأرمنية الكاثوليكية، إلى أرض لبنان. فاستقبلته هذه الأرض التي طالما اعتبرها موطن الإيمان والسلام، بقلوبٍ مفتوحة وأيدٍ مرفوعة نحو السماء.
احتفالٌ رسمي مليء بالأمل والروحانية
عند وصول الجثمان إلى مطار بيروت الدولي، جرى استقبال رسمي مُهيب في الصالون الرئاسي، بحضور كبار الشخصيات الوطنية والدينية، وسط تزيين القاعة بالورود وصور البطريرك الراحل. وكان جثمانه قد غادر كنيسة المعهد الأرمني الحبري في روما بعد أن ظلّ فيها لأكثر من نصف قرن، ليعود إلى وطنه الأصلي.
مساء أمس، جرى حفل استقبال روحي في ساحة الشهداء، بدعوة من بطريرك بيت كيليكيا للأرمن الكاثوليك، روفائيل بيدروس الحادي والعشرين ميناسيان. هذا الاحتفال الذي استمرّ ساعة، كان يرمز إلى الوحدة الروحية والوطنية بين جميع أطياف الشعب اللبناني، مسيحيِّين ومسلمين، ليكون تطواف الجثمان إلى ضريحه في كاتدرائية مار غريغوريوس ومار إلياس النبي للأرمن الكاثوليك تتويجاً لهذا الحدث الروحي.
جثمان لا يزال على حاله بعد 53 عاماً من الوفاة
من اللافت أنّ جثمان البطريرك أغاجانيان، الذي لم يتأثّر بمرور الزمن، مكشوفٌ أمام المؤمنين لرؤيته والصلاة أمامه، وسط حالة من التأمّل والخشوع. وأوضح القائمون على الحفل أنّ الجثمان سيبقى في لبنان كما كانت وصيّته، ليُدفن في كاتدرائية مار إلياس وسانت غريغوريوس المنور في بيروت، حيث يَعمّ الأمل بأن يرقد بسلام في أرض أحبّها وعمل لخدمتها طوال حياته.
سيرة حياة ملهمة تجمع بين العطاء والإيمان
البطريرك أغاجانيان، الذي وُلد في جورجيا وحمل الجنسية اللبنانية، كان من أوائل الشخصيات التي حصلت على الجواز الدبلوماسي اللبناني في عام 1943. وخدم طائفة الأرمن الكاثوليك كبطريرك لمدة 25 عاماً، وكان رجلاً منفتحاً على الآخرين، مسهماً في تعزيز المصالحات وبناء الكنائس والمدارس ودور الأيتام. كما كانت حياته تجسيداً حياً لقيم العدل والسلام والمحبة الإلهية.
وفي وصيّته المؤثرة، عبّر عن رغبته في أن يرحل عن الدنيا بسلام، متوكّلاً على رحمة الله والقديسة مريم العذراء، التي كانت مصدر إيمانه وقوّته. كان دائماً يسعى إلى أن يكون مثالاً للتواضع والمحبة، يجمع بين الناس ويدعو إلى التآخي والوحدة.
أثناء الاحتفال، ألقى رئيس الحكومة نجيب ميقاتي كلمة معبّرة جاء فيها: “نأمل أن نبني هذا البلد الحبيب، يداً بيد، ونجعله آمناً مزدهراً كما أراده الكاردينال أغاجانيان. عاش الكاردينال البطريرك أغاجانيان تجربةً فريدة من نوعها، حيث جمع في شخصه بين الإيمان الراسخ والمحبة للبنان ولجميع أبنائه.”
نفحة من الصلاة والأمل
في هذا اليوم التاريخي، لم يكن الحضور مجرّد شاهد على استعادة جثمان البطريرك، بل كان مناسبة لتجديد العهد على الإيمان بالمستقبل. فلبنان، البلد الذي طالما تغذى على روح الإيمان والتعايش، يَجد اليوم في هذه المناسبة دعوة جديدة للصلاة والتضامن، والعودة إلى القيم التي زرعها في قلوب أبنائه.
في ظل هذا الاحتفال الروحي العميق، يقف لبنان مجدّداً عند مفترق التاريخ، مستذكراً مسيرة البطريرك كريكور بيدروس الخامس عشر أغاجانيان الذي عاش حياته خادماً للكنيسة والوطن. اليوم، يرقد بسلام في أرضه، لكنّ ذكراه ستبقى حية في قلوب المؤمنين، لتظل مصدر إلهامٍ ودعوةٍ إلى السلام والمحبة.