ألقى الفيلسوف السياسي الأميركي والمنظّر في العلاقات الدوليّة جون مرشهايمر (John Mearsheimer) محاضرة قبل حوالي الأسبوعين في مركز الدراسات المستقلّة في أستراليا تناول فيها أحداث 7 أكتوبر وتداعياتها على الشرق الأوسط وتأثيرها على مستقبل إسرائيل وهيمنة الولايات المتّحدة الأميركيّة على العالم. لا بدّ من التطرّق لهذه المحاضرة المهمّة لما تحمله من توقّعات لمستقبل المنطقة من شخصيّة أكاديميّة مرموقة ومحترمة في الغرب. بداية ً، مَن هو جون مرشهايمر.
ينتمي جون مرشهاير إلى مدرسة الواقعيّة العلميّة (Scientific Realism) في العلاقات الدوليّة وهو صاحب نظريّة الواقعية الهجومية (Offensive Realism) مفادها أنّ المنافسة الأمنية للسيطرة على العالم بظلّ الفوضى التي تسود النظام الدولي تقع بين القوى العظمى بشكل عضوي، لا على الطبيعة البشرية لرجال الدولة والدبلوماسيين الذين يقودون هذه الدول العظمى كما تنادي بها نظريّة الواقعيّة السياسيّة التقليديّة. وقد رسّخ مرشهايمر هذه النظريّة وشرحها بإسهاب في كتابه (The Tragedy of Great Power Politics) الصادر في العام 2001. وإنطلاقا ً من نظريّته، أي الواقعية الهجومية (Offensive Realism), يتوقّع مرشهايمر نزاعا ً بين الصين والولايات المتّحدة الأميركيّة في نهاية المطاف نتيجة ً لتزايد النفوذ الإقتصادي الصيني على العالم ومحاولات الولايات المتّحدة لإحتواء الصين عسكريّا ً وإقتصاديّا ً لمنعها من بسط هيمنتها على منطقة المحيطين الهندي والهادئ. لعلّ أبرز كتب مرشهايمر التي تهمّ منطقتنا العربيّة كتابه الذي ألّفه مع ستيفان والت (Stephen Walt)، البروفيسور في العلاقات الدوليّة في جامعة هارفرد, حول لوبي إسرائيل (وليس اللوبي الإسرائيلي!) والسياسة الخارجيّة الأميركيّة (The Israel Lobby and U.S. Foreign Policy) الذي أصدره العام 2007 يتحدّث فيه بإسهاب عن كيفيّة سيطرة لوبي إسرائيل من الأميركيّين على السياسة الخارجيّة لأميركا وتسخيرها لخدمة إسرائيل والتأثير السلبي لهذه السيطرة على المصالح الحقيقيّة للولايات المتّحدة الأميركيّة.
بالعودة لمحاضرة مرشهايمر، أهمّ ما ورد فيها في ضوء أحداث 7 أكتوبر 2023 أنّ إسرائيل هي الخاسر الأكبر من هذه المعركة لعدّة أسباب:
1- الإسرائيليّون قد عادوا إلى غزّة، وكر الدبابير بالنسبة لإسرائيل، من دون أن يكون عندهم خطّة للخروج منها ودون أن يكون لديهم حلّ للمشكلة التي ورّطوا أنفسهم فيها بسبب سياسات نتنياهو.
2- ضعف قدرة إسرائيل على الردع والتي كانت قائمة على هيمنة التصعيد (Escalation Dominance) أيّ أنّ إسرائيل كانت تردّ على كلّ عمليّة عسكريّة ضدّها من قِبَل أعدائها بعمليّة عسكريّة أشد قساوة ً وقوّة ًوبالتالي كانت إسرائيل تسيطر وتهيمن على كيفيّة التصعيد العسكري. أعطى مرشهايمر مثلا ً على ذلك من خلال ما حصل بين حزب الله وإسرائيل في 12 تمّوز 2006 والتي أدّت إلى حرب ال 34 يوم، مؤكّدا ً أنّ كلام السيّد حسن نصرالله بعد حوالي الشهرين من توقّف الحرب حول أنّه لو كان يعلم أنّ ردّ إسرائيل سيكون على الشكل الذي حصل لما سمح بعمليّة خطف الجنود الإسرائيليين، يصبّ في منحى هيمنة التصعيد (Escalation Dominance) أي أنّه إذا قام أي طرف معادٍ لإسرائيل بشن عمليّة عسكريّة ضدّها، ستقوم إسرائيل بضرب هذه الجهة بشكل ٍ أشدّ وأقوى. وبالتالي، يعتبر مرشهايمر أنّ إسرائيل قد خسرت إستراتيجيّة هيمنة التصعيد بوجه حزب الله وإيران في ظلّ أحداث 7 أكتوبر لأنّها لا تستطيع حسم المعركة على جبهتها الشماليّة. فإسرائيل تضرب حزب الله والأخيرة تردّ بالمثل ممّا أفقد إسرائيل اليد العليا في السيطرة على مجريات الأحداث وأفقدها القدرة على فرض هيمنة التصعيد لأنّ الحزب يملك أكثر من 150,000 صاروخ مما يحدّ من قدرة إسرائيل على التصعيد حسب مرشهايمر. ويضيف مرشهايمر أنّ ما حدث ليلة 14 آب وحالة الهلع التي عاشتها إسرائيل نتيجة الرّد الإيراني على عملية إستهداف سفارتها في دمشق وطلب إسرائيل المساعدة العسكريّة من أميركا ودول أوروبيّة أخرى لصدّ هجوم المسيّرات والمقذوفات الإيرانيّة يصبّ أيضا ً في منحى ضعف قدرة الردع لدى إسرائيل وفقدانها لهيمنة التصعيد لأنّها تستغيث بحلفائها من دول كبرى لصدّ هجوم بالمسيّرات بالرغم من إمتلاكها لمنظومات دفاع صاروخيّة كالقبّة الفولاذيّة ومقلاع داوود.
3- إيران وحلفاؤها في المنطقة بمن فيهم حزب الله وحماس والحوثيّون يطوّرون القدرة على ضرب العمق الإسرائيلي من خلال المسيّرات والصواريخ والتسبّب بأضرار جسيمة.
4- إسرائيل أصبحت دولة منبوذة نظرا ً للفظاعات التي ترتكبها منذ 7 أكتوبر والدليل على ذلك الصحوة في حرم الجامعات والمظاهرات الطلّابيّة ضد إسرائيل في الولايات المتّحدة الأميركيّة وإدّعاء جنوب إفريقيا ضدّ إسرائيل أمام محكمة العدل الدوليّة وحكم الأخيرة بوجود أدلّة كافية أنّ إسرائيل قد تكون ترتكب الإبادة ضدّ الفلسطينيّين. أضف إلى ذلك أنّ إستطلاعات الرأي تشير إلى أنّ 57% من الديموقراطيّين يؤمنون أنّ إسرائيل ترتكب الإبادة في غزّة.
ينهي مرشهايمر حديثه أنّه إذا ما قارن ما شهده وعرفه عن إسرائيل في الغرب منذ شبابه ولغاية اليوم، كما الكثيرين مثله، يجد أنّ ثمّة تحوّل جذري حول رؤية الشعب الغربي تجاه إسرائيل التي باتت صورتها مشوّهة وسمعتها ملطّخة.