المفاوضات التي تخوضها “حماس” في شأن غزة يسودها التشاؤم. بنيامين نتنياهو نجح في فرض خياراته على الأميركيين، وهو ما اعترف به وزير خارجيتهم أنطوني بلينكن الذي بدا منهكاً ومستسلماً في نهاية محادثاته الأخيرة في إسرائيل. وفشل التسوية في غزة ستكون له تداعياته، خصوصاً في لبنان.
سمحت الظروف الإقليمية والدولية لرئيس وزراء إسرائيل لكي يرفع الصوت في وجه الحلفاء والأعداء: “أنا وحدي سأقرر مصير غزة”. فالرجل يريد اعترافاً من “حماس” وتغطية من الأميركيين لاستئناف الحرب، بعد تنفيذ بنود الهدنة الموعودة هناك، ما يؤهله التحكم بالقطاع وحركة الأشخاص على حدود غزة وفي داخلها. وهذا الأمر تعتبره “حماس” خضوعاً كاملاً للمشيئة الإسرائيلية. ولكن، لم تبق أمام الحركة سوى أوراق قليلة جداً تلعبها، ومنها العودة إلى العمليات الانتحارية التي كانت تنفذها في الداخل الإسرائيلي خلال مراحل سابقة، وتخلت عنها. وهذا المناخ يوحي أن نتنياهو يستعد لتصعيد الحرب جنونياً في غزة، بهدف تحقيق الحسم في أقرب ما يمكن.
واستطراداً، ليس متوقعاً أن يكون وضع الجنوب اللبناني أفضل. وثمة من يتحدث عن تصعيد واسع قد يلجأ إليه الإسرائيليون على حدود لبنان، بعد انكشاف فشل المفاوضات الجارية حول غزة، في الدوحة والقاهرة. وهذا هو الانطباع الذي أرسته محادثات الوسيط الأميركي عاموس هوكشتاين في بيروت.
فقد نقل زوار بعض المرجعيات الرسمية تقديرها أن مناخات الوضع اللبناني مقلقة جداً. فغالبية القوى الدولية انكفأت عن دعم لبنان. وتستغل إسرائيل هذه الفرصة لرفع مستوى الضغوط على الجانب اللبناني إلى الحد الأقصى. وفيما كان الإسرائيليون يطالبون في المفاوضات السابقة بإقامة منطقة عازلة لا تتجاوز الـ10 كيلومترات، باتوا اليوم يصرون على أن تكون هذه المنطقة في عمق 40 كيلومتراً. ويتردد أن نتنياهو أبدى تصلباً مستجداً في هذه النقطة، ورفض أي تفاوض حولها في المطلق.
المعلومات التي رشحت من الذين التقوا هوكشتاين تشير إلى أن الجانب الإسرائيلي بات يستعجل حسم موضوع المنطقة الشمالية، وربما في غضون أيام قليلة، أي قبل نهاية آب الجاري. ولذلك، إن الأيام القليلة المقبلة قد تحدد مصير لبنان، في ظل الرغبة الجامحة لدى حكام إسرائيل الحاليين إلى الحرب لا إلى المفاوضات.
وفي المعلومات أن الجانبين الفرنسي والمصري حاولا الضغط على الجانب الرسمي اللبناني ووضعه في أجواء المخاطر الداهمة. لكنهما توصلا إلى استنتاج ان لبنان لا يمتلك قراره. وعندما طلب الفرنسيون من الجانب الاسرائيلي أن يتفهم طبيعة هذا المأزق الذي يعيشه لبنان، جاء الرد بأن إسرائيل تريد إبعاد الخطر عن المنطقة الشمالية، ولا يعنيها أي اعتبار آخر.
ويسود اعتقاد في بعض الأوساط الديبلوماسية أن إيران قد لا تتورع عن خوض المواجهة الكبرى مع إسرائيل على الساحة اللبنانية، إذا اضطرها الأمر إلى ذلك، لاعتقادها أن “حزب الله” سيبقى الطرف الأقوى في لبنان، مهما بلغت خسائره في أي حرب. ولذلك، تأمل إيران أن تبقى المفاوض الأساسي وصاحب القرار الأول إقليمياً، فيما لبنان لا يعدو كونه حجر شطرنج يتم تحريكه وفقاً للمصالح في أي مفاوضات.
وما يسعى إليه الإسرائيليون في هذه المرحلة هو تصفية الملف الفلسطيني. وقد نجحوا في ذلك من خلال امتناعهم عن وقف الحرب في غزة. وعلى الأرجح، هم سيطلقون المسار الآيل إلى تنظيم الوضع هناك، والذي سيستمر سنوات، وخلاله سينصرفون الى تسوية تلائمهم في الضفة الغربية أيضاً.
وأما في لبنان، فيريد الإسرائيليون حسم الأمور وفق الحسابات التي أجروها قبل نحو شهرين، أي قبل بدء التحضيرات للعام الدراسي الجديد في المنطقة الشمالية. وهذا ما يثير القلق من حصول صدمات عسكرية. ويستنتج الذين التقوا هوكشتاين أن رد “الحزب” على طروحات نتنياهو سلبي، ولذلك، يبدو التهديد الاسرائيلي بمغامرة في لبنان أمراً جدياً. وقد لا تلجأ اسرائيل إلى اجتياح أراض لبنانية، لكنها ستعتمد خيار التدمير.
والسؤال الذي يطرحه المراقبون هو: في ضوء الاهتراء والفراغ في مؤسسات السلطة، هل سيبقى “الحزب” هو اللاعب المحلي الوحيد القادر على قطف الثمار، في اعتبار أنه الأقوى في بلد سيصاب فيه الجميع بالخسائر؟ وهل سيكون دمار الدولة لمصلحة “الحزب” قبل سواه؟
قد يكون ذلك وارداً، لكن كثيرين يعتقدون أن ما بعد حرب غزة والجنوب لن يكون كما قبلها. ولبنان قد يتبدل “شكلاً ومضموناً”. ويقال إنه قد أصبح جاهزاً لهذا التبدل، نتيجة الانهيارات والفراغات المتلاحقة، خصوصاً منذ انهيار تشرين الأول 2019 والكوارث التي تلته أو نتجت عنه.