بات جليا أن رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو يدفع بالأوضاع المتشابكة والمعقدة في الشرق الأوسط في اتجاه مزيد من التصعيد وصولا لتحقيقي هدفين أستراتيجيين أساسيين هما: ضرب المنشآت النووية الإيرانية وتوجيه ضربة قوية ضد حزب الله وإبعاده نهائيا عن الحدود اللبنانية.
وتبدو الظروف وكأنها باتت تعمل لمصلحته. فعلى المستوى الداخلي أصبحت قدرته على التحرك واتخاذ القرارات أوسع بكثير وفق ما يلحظه الدستور الإسرائيلي للمرحلة الحالية. وعلى المستوى الأميركي فإن التطورات الإنتخابية المفاجئة والمتسارعة والتي أدت الى انقلاب في المشهد، فهي لعبت لمصلحة نتنياهو وهو ما ظهر جليا في زيارته الأخيرة الى واشنطن والتي ركزت على هدف واحد وهو توجيه ضربة لإيران.
لكن نتنياهو أدرك أيضا أن الوقت يمر بسرعة وهو غير مفتوح الى ما لا نهاية، وتجلى ذلك بما قاله دونالد ترامب بأنه لا يريد ان تكون الحرب “ما تزال مستمرة لدى عودتي الى البيت الأبيض”. وبمعنى آخر “لديك أشهر معدودة إضافية لإنهاء ترتيب المسرح في الشرق الأوسط”. وهو ما يعني أن على نتنياهو “إنجاز” ما يسعى له خلال هذه المدة والتي يصنفها كفرصة تاريخية يجب عدم تفويتها.
وثمة هدف آخر لنتنياهو وهو يتعلق بوضعه الشخصي. فهو يعرف جيدا أن الشارع الإسرائيلي يحمله مسؤولية كارثة “طوفان الأقصى”. وأنه ارتكب أخطاء جسيمة سمحت لحركة “حماس” بتطوير وتعزيز نفسها للقيام بالضربة التي هزت الكيان الإسرائيلي في الصميم. وبالتالي فور توقف الحرب سيفتح القضاء قاعاته للتحقيق في الأسباب الحقيقية التي أوصلت إسرائيل الى الكارثة. ولا بد أن نتنياهو يعتقد بأن ذهابه الى النهاية في حربه على غزة ساهم في تحقيق بعض التحسن على شعبيته. واستطرادا فإن احتمال نجاته من “مقصلة” المحاسبة يمكن أن يتحقق إذا ما نجح في تحقيق الهدفين الإستراتيجيين الذين يقضان مضجع الشارع الإسرائيلي وهما: النووي الإيراني وحزب الله. ولذلك يندفع نتنياهو بقوة لتحقيق هذين الهدفين خلال الأسابيع المقبلة وهي الفترة المتاحة أمامه والممتدة حتى أواخر السنة الحالية في أبعد تقدير. ويساعده في ذلك تحول المشاكسة التي مارسها جو بايدن ضده الى نوع من التفهم أو التطنيش، كون هذا الأخير والذي تحرر من الإلتزامات الإنتخابية لا يريد الخروج من حياته السياسية الطويلة وهو “متهم” بالخلاف مع الحكومة الإسرائيلية حول مسألة تضعها اسرائيل في مرتبة القضية الوجودية، وهو الذي يصف نفسه بأنه “الأقرب الى الصهيونية”.
لأجل كل ما تقدم باشر نتنياهو في التحضير لحربه الجديدة والتي وصفها بأنها طويلة قبل انتهاء زيارته للولايات المتحدة. فالصاروخ “الغريب” الذي انفجر في مجدل شمس أعطى نتنياهو الذريعة للإنطلاق في مغامرته الحربية الجديدة.
لذلك تشاجر بقوة مع وزير الدفاع يوآف غالانت بعدما حاول الأخير تولي الرد العسكري. يومها منع نتنياهو غالانت من اتخاذ أي قرار وتجميد كل شيء الى حين عودته. ومع تنفيذ الضربات الإسرائيلية أصبح المشهد أكثر وضوحا. فالأهداف الإسرائيلية تخطت سقف النزاع القائم وتجاوزت الخطوط الحمر العريضة إن في الضاحية الجنوبية لبيروت والهدف المقصود أو بعد ساعات معدودة في قلب طهران وداخل مقرات الحرس الثوري وعشية حفلة تنصيب الرئيس الإيراني الجديد. واستتبع ذلك وبفارق ساعات معدودة أيضا إعتداءات في سوريا والعراق. ليلتها نقلت وسائل الإعلام المختلفة أن نتنياهو سهر ليلته حتى ساعات الصباح في غرفة العمليات وهو يتابع سلسلة الهجمات الخطيرة التي قام بها. ولا شك في أن نتنياهو يهدف الى توجيه ضربات استفزازية لا يمكن لإيران ولا لحزب الله أن يتجاوزها من دون حصول رد في المقابل. ما يعني أنه يريد رد فعل يفتح له الباب ويعطيه الذريعة للذهاب في مغامرته الحربية والسعي لتحقيق هدفيه: النووي الإيراني وحزب الله.
وخلال انتظاره لحصول ردود الفعل باشر نتنياهو في تحضير الإجراءات الداخلية الجدية في حالات الحروب. فهو حتى أزال المواد السريعة الإشتعال من معامل المنطقة الشمالية وترتيب مواد الأمونيوم وتحضير كافة الخطوات في حال ضرب السنترالات والكهرباء الخ…
قبل ذلك كانت الطائرات الحربية الإسرائيلية قد وجهت ضربة لهدف بعيد هو مرفأ الحديدة اليمني. وأكدت يومها إسرائيل كما واشنطن أن العملية أنجزها سلاح الجو الإسرائيلي من دون مساعدة أحد. والمقصود بهذا الكلام أن إسرائيل باتت قادرة على توجيه ضربة مماثلة في منطقة بعيدة مثل إيران. وفي الوقت نفسه حصلت على القنابل الكبيرة والتي تحدث دمارا واسعا، إضافة الى أنواع أخرى من الأسلحة الفتاكة والذكية والتي تسعى لاستخدامها في لبنان.
أما القطع البحرية العسكرية الأميركية والتي تعزز انتشارها في البحر المتوسط والخليج العربي فجاء طابعها الغالب دفاعي بمعنى أنها مجهزة بصواريخ متخصصة في إسقاط الصواريخ البالستية الموجهة في اتجاه إسرائيل. وهنالك من يقول بأن إدارة بايدن جادة في عدم التورط بمستنقع حربي جديد ولو أنها باتت غير قادرة على لجم نتنياهو. والأخطر ما يتردد في الكواليس الديبلوماسية من أنه حتى ولو عمدت إيران ومعها حزب الله الى رد جوي مدروس إلا أن إسرائيل قد تعمد الى ترك بعض المسيرات والصواريخ تتخطى الشبكة الدفاعية لتسقط وتنفجر في الداخل لكي تأخذ منها ذريعة لبدء مرحلة عدوانية جديدة.
لذلك ربما، وبتشجيع من واشنطن، قام وزير الخارجية الأردنية أيمن الصفدي بزيارة نادرة الى إيران رغم العلاقة المتوترة بين البلدين. وحمل الصفدي بين يديه مهمة محكومة بالفشل مسبقا وتتعلق بجعل إيران تتجاوز قرارها بالرد. وقد يكون الجواب أتى على لسان رئيس البرلمان الإيراني محمد باقر قاليباف قبل وصول الوزير الأردني، حيث دعا إثر جلسة غير معلنة ومخصصة للبحث في أبعاد اغتيال اسماعيل هنية في طهران الى رد وصفه بالمزلزل على إسرائيل. رغم ذلك كانت هنالك إشارات مرنة ولو صامتة من قبل طهران تجاه واشنطن، كمثل غياب “التحرشات” التي اعتادت القيام بها زوارق البحرية الإيرانية السريعة ضد السفن الحربية الأميركية لدى مرورها في مضيق هرمز في اتجاه بحر الخليج. مع تسجيل نقطة إضافية وتتعلق ببقاء قناة التواصل مفتوحة بين طهران وواشنطن.
في هذا الوقت، كانت إسرائيل تمهد للوضع ميدانيا. ولذلك وجهت ضربات جوية وصفت بالعنيفة على منطقة القصر الحدودية بين لبنان وسوريا والتي يسيطر عليها حزب الله إضافة الى مطار الضبعة والذي يستخدمه الحزب.
الواضح أن إسرائيل تضع الحرب أمامها وهو ما كان أعلنه نتنياهو صراحة غداة عودته من واشنطن. وأن أهداف هذه الحرب تصل الى حدود تعديل موازين القوى الإقليمية من خلال “تقليم أظافر” إيران في المنطقة، ما يعني تغيير المعدلة الإقليمية التي سعت طوال العقود الماضية لإرسائها. وهذا الهدف يؤيده بصمت عدد من الدول العربية، ولا تعارضه واشنطن بالطبع ولو أنها تتهيبه.
وفي نتائج إستطلاعات قامت بها مؤسسة “الباروميتر العربي” خلال الأشهر الماضية سنجد بعض الأجوبة لما هو مطروح. ذلك أن الأرقام تظهر بأن غالبية سكان الدول في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يعارضون الحرب الإسرائيلية على غزة ويصنفوها بالأعمال الإرهابية والتي ترقى الى مستوى الإبادة الجماعية. ولكن ومع ذلك فهذا الواقع لا يترجم الى دعم تلقائي لإيران حيث ظهر التأييد لها منخفضا، لا بل فهنالك معارضة لنفوذها السياسي ولبرنامجها النووي والذي يجري وضعه في إطار تهديد لمصالح الأمن القومي من قبل نسبة مرتفعة من المستطلعين.
وتظهر الإستطلاعات أيضا أن شعوب الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لديهم الشكوك نفسها تجاه حلفاء إيران مثل الرئيس السوري وحزب الله وحتى روسيا.
ففي سياق الرد على سؤال حول الرضى على سياسة إيران جاءت النسب كالآتي: 36% لبنان، 28% فلسطين، 25% الأردن، و15% الكويت.
أما حول السؤال عما إذا كان نفوذ إيران يشكل تهديدا خطيرا لمصالح الأمن القومي في بلدانهم، جاءت النسب الموافقة كالتالي: 47% فلسطين، 46% المغرب، 57% الأردن، 56% لبنان، 56% الكويت، 54% تونس.
وحول تدخل حزب الله في السياسات الإقليمية وما إذا كان ذلك يصب في مصلحة المنطقة العربية جاءت نسبة الردود وفق الآتي: 30% السودان، 24% لبنان، 23% موريتانيا، 16% العراق، 6% الأردن.
قد يكون نتنياهو يرى أن الظروف تلعب لمصلحة الإندفاع في مغامرة تغيير المعادلة الإقليمية القائمة، وهو يدفع في هذا الإتجاه. وقد تكون واشنطن الغارقة في فوضاها الإنتخابية ترى أن لا شيء يمنع من إعادة رسم خريطة النفوذ السياسي على نار الحروب طالما أن المفاوضات السياسية بطيئة ولم تصل بعد الى النتائج المرجوة.