ينهي الجيش الإسرائيلي، خلال أيام، المناورة البرية في محافظة رفح جنوبي قطاع غزة، لتعود الحرب إلى المراوحة ما بين أمرين: الانتظار اللامجدي لاستسلام المقاومة بعد العملية الحالية، والتهديد بدخول مدينة رفح نفسها من دون أيّ إستراتيجية أو هدف، كما كانت عليه حال العمليات البرية في الأشهر الثمانية الماضية. وبينما لا تلوح في الأفق أيّ بوادر تسويات، يتعذّر في الوقت نفسه تحقيق انتصار أو إنجازات إستراتيجية لإسرائيل، حتى في حال استمرار الحرب. وهكذا، سيتعاظم المأزق الإسرائيلي مع فقدان ورقة الميدان عمليّاً، نتيجة تراجع الضغط العسكري فيه، فيما الأسئلة التي كان يجب أن تدفع صاحب القرار في تل أبيب إلى تغيير مقاربته والبحث عن مخارج سياسية تتعلّق بـ«اليوم التالي»، ستظلّ هي نفسها: ما هي أدوات الضغط الميدانية على المقاومة الفلسطينية بعد عملية رفح؟ وكيف ستبيع القيادة الإسرائيلية جمهورها آمالاً في المرحلة اللاحقة لآخر عملية معتدّ بها في غزة؟ وما هي الطريقة عندذاك لدفع المقاومة إلى الاستسلام؟ وفقاً لأحد كبار الخبراء الإستراتيجيين في إسرائيل، اللواء عاموس يدلين، فإن «رفْض نتنياهو العنيد لبحث مستقبل الحرب وتجنُّب اتّخاذ قرارات حاسمة وجوهرية، يشكّل وصفة أكيدة للتخبّط والهزيمة»، فيما «تحرّكات رئيس الحكومة تقود إسرائيل إلى مأزق أمني خطير وغير مجد من الناحية الإستراتيجية».أمّا من ناحية فصائل المقاومة، وفي مقدمتها حركة «حماس»، فثمة خيار واحد لا بديل منه في ظلّ التعنّت الإسرائيلي: الصمود إلى أن يقرّ الكيان بفشله، ويتعامل مع الواقع كما هو، فيما المطلب الرئيس، والذي لا يبدو قابلاً للتراجع عنه، هو أن يشمل أي اتفاق محتمل ضمانات بنهاية دائمة للحرب. وإذا كانت إسرائيل تحاول الإيحاء بأن الاتفاق العتيد لن يدوم طويلاً، وأن الحرب ستُستأنف بعد إطلاق سراح أسراها، فهذا يعني أن المقاومة لن تنخرط في الصفقة ما لم تكن متضمّنة تلك الضمانات، فضلاً عن أنها لن تكون معنية بالموافقة على صيغ ومبادرات وتفسيرات تقدَّم لها في الغرف المغلقة، هي في أحسن الأحوال حمّالة أوجه وغامضة، تتيح للكيان التملّص منها في مرحلة لاحقة.
وبالنسبة إلى شريكة إسرائيل في حربها على غزة، الولايات المتحدة، فإن الحرب استنفدت نفسها، وبات استمرارها يأكل من إنجازاتها التكتيكية. ولهذا، تطالب واشنطن، تل أبيب، بأن تعمل على إيجاد مخرج سياسي للحرب، يتيح تقليص ما أمكن من أضرارها، وفي المقدمة الخروج من حالة الاستنزاف التي لا أفق لها. ومنذ اليوم الأول، سعت الولايات المتحدة إلى دفع إسرائيل إلى بلورة ترتيب أمني وسياسي في قطاع غزة، لليوم الذي يلي الحرب، وهو ما يعبَّر عنه بـ«الرؤية الاإستراتيجية» لِما بعدها، إلا أن محاولاتها تلك لم تصل إلى حدّ ممارسة «الضغط الفعال» لفرض رؤيتها على إسرائيل، وهو ما ميّز أداء إدارة الرئيس جو بايدن طوال أشهر الحرب الطويلة.
لكن إسرائيل ظلّت تُراهن، طوال مدة الحرب، على أن تؤدي عملياتها إلى استسلام المقاومة، فيما ما يُقال ويُكتب ويقدّر الآن، عن أن أهداف الحرب لا يمكن تحقيقها، هو في الواقع حديث «الحكمة ما بعد الفعل». فإسرائيل، بمعظم مسؤوليها وخبرائها وكتابها، علّقت الآمال على القتال، ليس لناحية تحقيق الأهداف في قطاع غزة فقط، بل أيضاً تحقيق «انتصارات» على ساحات أخرى، على رأسها لبنان. إلا أن الكيان عاش، في الأشهر الأخيرة، صدمة فشل الرهان على الانتصار بالقتل والتدمير؛ وبمقدار ضخامة الرهان، جاء وقع الصدمة عالياً جداً، وهو ما يدفعه إلى رفض الاعتراف بالفشل. ومع ذلك، فقد دلّ مقترح الاتفاق الذي أعلنه الرئيس الأميركي، جو بايدن، ونسَبه إلى نتنياهو بهدف إلزامه به – علماً أن المقترح صادر بالفعل عن رأس الهرم السياسي في تل أبيب – على أن الأخير مدرك للواقع، وليس منفصلاً عنه، لكن الابتعاد عن الرهان على «النصر المطلق»، يستلزم وقتاً طويلاً، وتحديداً في الحالة الإسرائيلية الراهنة، حيث تتشابك المصالح الشخصية والعامة والأيديولوجية، مع فقدان أدوات الضغط المؤثرة على القرار، وهو ما يفيد في إطالة أمد الحرب.
على أي حال، فإن الأطراف المعنيين، بمن فيهم الوسطاء المنحازون، يتفاوضون على شروط إنهاء حرب الاستنزاف، في الميدان، بما يشمل كذلك جبهات المساندة في لبنان والمنطقة، وهو ما ينتج المعادلة التالية: صمود فلسطيني أسطوري في مقابل عجز إسرائيلي عن حصد إنجازات إستراتيجية، وتداعيات يبدو الكيان معنياً بالحؤول دون تمدّدها في أكثر من مستوى واتجاه داخلي وخارجي.
المصدر:”الاخبار – يحيى دبوق”
**