سبق وأن خذلت حرب غزة جميع الذين راهنوا على وقفٍ لإطلاق النار وفق مواعيد عدة سابقة. وها هي تخذلهم من جديد اليوم حيث تؤشّر كل المعطيات الى استمرار آلة القتل “الاسرائيلية” في تنفيذ مجازرها للأسابيع القادمة.
وهذا ما أعلنه رئيس الحكومة “الإسرائيلية” بنيامين نتنياهو الذي فصل بين أي اتفاق حول الأسرى وبين استكمال الهجوم على رفح.
ولا شك أنّ نتنياهو الذي يرفض بالمطلق أي شكل من أشكال الدولة الفلسطينية، يشعر أنه يسبح مع التيار الشعبي. فوفق آخر الاستطلاعات “الاسرائيلية” تبيّن أن 47% من اليهود الإسرائيليين يؤيدون أولوية تدمير حماس في مقابل 25% فقط يعطون الأولوية لتحرير الأسرى.
وثمة نتائج أخرى تدفع بالحكومة “الأسرائيلية” للاندفاع أكثر في حمام الدم وهي بأن 63% من “الاسرائيليين” يؤيدون حصول انتخابات مبكرة، مع الإشارة الى أنّ خيار إجرائها في غضون ثلاثة أشهر هو الأكثر شعبية.
لكن الأكثر مَدعاة للغرابة هي الادارة الأميركية التي تعلن مواقف معارضة لاستمرار الحرب ثم ترسل “لإسرائيل” شحنات الاسلحة والذخائر في إشارة الى منحها الضوء الأخضر لاجتياح رفح. في الواقع، عدا الضعف الذي بات يصبغ موقف إدارة بايدن الغارقة في صراع انتخابي عنيف، ثمّة من يقرأ ازدواجية في تعاطي البيت الأبيض مع حرب غزة. وهنالك من يقول انّ إدارة بايدن تؤيّد «حرب إسرائيل» لكنها تعارض «حرب نتنياهو». لذلك، هي تتفق مع اسرائيل في سعيها للقضاء على الآلة العسكرية لحماس، لكنها تختلف مع نتنياهو في قناعاته وفي ذهابه «لطرد» الفلسطينيين من غزة.
وخلال الشهر الماضي عرضت إدارة بايدن لمحة موجزة عن خطتها للشرق الأوسط عبر مقال لتوماس فريدمان في صحيفة النيويورك تايمز. والمعروف عن فريدمان قربه من البيت الأبيض.
وكتب يقول إننا على وشك رؤية استراتيجية جديدة تدعى «عقيدة بايدن» من خلال إيجاد حلول للحرب الدائرة على جبهات عدة في المنطقة. وأضاف أنه إذا نجح هذا التصور الضخم، فهذا يعني أن «عقيدة بايدن» ستصبح أكبر خطة لإعادة ترتيب استراتيجي للمنطقة منذ معاهدة كمب ديفيد 1979.
ووفق فريدمان فإن الخطة مكونة من ثلاثة أجزاء:
– إقامة دولة فلسطينية.
– تطبيع اسرائيلي-سعودي سيتضمن تحالفا أميركيا أمنيا وعسكريا مع السعودية.
– التعاطي بحزم مع شبكة إيران الإقليمية.
الواضح أن ادارة بايدن تعمل على إغراء “اسرائيل” بالتطبيع مع السعودية لإقناعها بالقبول بالدولة الفلسطينية وهو ما لم يحصل حتى الآن. ففي قمة ميونيخ الأمنية قال بلينكن انّ هناك فرصة غير مسبوقة “لإسرائيل” لتكاملها الإقليمي في الشرق الأوسط: «تقريباً كل دولة عربية تريد دمج “اسرائيل” في المنطقة وتطبيع علاقاتها معها».
وبشيء من التدقيق يمكن ملاحظة حركات مريبة على مستوى روسيا. فالجبهة العسكرية في أوكرانيا لَحظت تقدما عسكريا مهما للجيش الروسي للمرة الأولى منذ فترة طويلة، في وقت اشتكى فيه الرئيس الأوكراني من أنّ النقص في الاسلحة أدى الى سقوط أفدييفكا. وبالتزامن، أعلن عن موت المعارض الروسي الأبرز ألكسي نافالي بعد سنوات على احتجازه. وإذا صحّت الاتهامات باغتياله فإنّ لاختيار التوقيت معناه البليغ، وهو أنّ الكرملين ليس قلقاً من العواقب. وثمة إشارة ثالثة تتعلق بما يُحكى عن لقاء تمهيدي للفصائل الفلسطينية في موسكو نهاية هذا الشهر للبحث في تشكيل الحكومة وضَم حماس والجهاد الإسلامي الى منظمة التحرير. وإذا أضفنا ذلك على «التعاون» الحاصل في سوريا والقاضي بتحجيم نفوذ ايران، فيمكن التكهن بوجود تفاهمات في الكواليس حول الترتيبات المتعلقة «بعقيدة بايدن».
وانطلاقاً ممّا سبق يمكن استنتاج بعض أوجه التقاطع لإعطاء الضوء الأخضر لإسرائيل باتجاه رفح. لكن السؤال الأهم هو حول التسوية السياسية الموعودة، والتي تقوم على قيام الدولة الفلسطينية، وهو ما يرفضه نتنياهو على الأقل حتى الآن.
ولذلك هنالك من يعتقد (ومن بينهم «حزب الله») بأنّ الحرب ستستمر لأكثر من شهر في أقل تعديل وربما لشهرين، وأن واشنطن متفاهمة مع اسرائيل على ذلك، وأن مصر ستدخل الى هذه التفاهمات ولكن بعد تحسين عروض المساعدات المالية لاقتصادها المتهالك. وتجري الاشارة الى انّ الأعمال الجارية في القسم المصري من رفح تؤشّر الى احتمال فتح الحدود أمام الفلسطينيين عند اشتداد القصف ولدوافع انسانية. لكن المساحة الجاري معالجتها في رفح المصرية لا تتسع لأكثر من مئة الف شخص، ما يعني أن اسرائيل ستكون مرغمة على القبول بمخيمات سيجري نصبها عند الساحل الممتد من جنوب غزة الى وسطها.
ووفق ما سبق فإنّ الجبهة اللبنانية ستبقى مشتعلة طوال الأسابيع المقبلة. لكن هنالك ما هو أخطر ويستوجب الحذر الشديد. فوفق استطلاع صحيفة معاريف الاسرائيلية أبدى 71% من “الاسرائيليين” تأييدهم لشن حرب على لبنان في مقابل 12% فقط أيدوا سياسة الاحتواء. وهذه النسبة تعتبر عالية جدا في ظل الحرب الدائرة والتي تجاوزت الأربعة أشهر، وهي تترافق مع تهديدات مستمرة لقادة الإحتلال مقرونة بتحذيرات جدية من كبار المسؤولين الأوروبيين. وبشيء من التدقيق ميدانياً، يتبيّن أن الانتشار العسكري “الاسرائيلي” ما يزال طابعه دفاعي، رغم أن القيادة العسكرية الاسرائيلية عملت على إعادة تنظيم القوى الهجومية التي جرى سحبها من غزة قبل أن ترسلها الى الجبهة مع لبنان. الأمر الذي يدفع للحذر من وجود نوايا عدوانية لدى “الإسرائيليين”، وهو ما يظهر مع التوسيع المتعمّد للاستهدافات “الاسرائيلية”. إحدى التحذيرات الأوروبية تحدثت عن وجود توجّه “اسرائيلي” للقيام بقصفٍ عنيف ضمن مساحة محددة، على أن يكون التحرك البري في المرحلة الأخيرة، وهو ما يفسّر إبقاء الانتشار العسكري الاسرائيلي وفق صيغة دفاعية في المرحلة الراهنة.
وكما أن في غزة برنامجين، واحد “إسرائيلي” والثاني أميركي، يبدو أنّ هناك برنامجين في لبنان أيضاً “إسرائيلي” وأميركي يتقاطعان حول مفهوم تطبيق القرار 1701. على أن يشكل ذلك جزءاً من «عقيدة بايدن» وفق تعريف توماس فريدمان.
فتطبيق القرار الدولي من المفترض أن يشكل فك ارتباط عسكري إضافي (باستثناء مزارع شبعا) بين “اسرائيل” وإيران. وسيجري إلحاق ذلك بالتسوية السياسية اللبنانية الداخلية من خلال جهود اللجنة الخماسية. وهذا ما يفسّر تراجع حركة اللجنة بعدما تحركت بقوة مطلع العام بدفعٍ سعودي واضح. فالوقت المناسب لم يَحن بعد. وفي وقت تحدثت مصادر إعلامية عن تواصل مصري مع «حزب الله» لطمأنته حول عدم وجود نية لفتح الحدود أمام الفلسطينيين، يجري التحضير لأن تكون الأسابيع المقبلة عامل إنضاج للذهاب الى التسوية اللبنانية. على أن يشكّل انتخاب رئيس جديد للجمهورية ضمانة للإشراف على تطبيق التسوية والتي سيكون عمادها القرار 1701، والاتفاق على حكومة مهمتها الانقاذ والنهوض الإقتصادي وقادرة على أن تحوذ على الدعم الخارجي المطلوب.
وقد يكون من هذه الزاوية يمكن قراءة الحركة الناشطة للرئيس سعد الحريري، والتي حملت رسائل عدة أبرزها قدرته على مواجهة التطرف في الساحة السنية، وهو ما يشكل أحد هواجس ما بعد حرب غزة.
لكن قبل كل ذلك يبدو أنّ دماء كثيرة ستسيل، وانّ إنضاج الطبخة ما يزال بحاجة الى مزيد من الوقت، ومع عدم الاغفال بأننا في الشرق الأوسط حيث المفاجآت غير المحسوبة واردة كل حين، ما قد يقلب الأمور فجأة.