هناك مجموعة من المسلمات صارت واضحة وضوح الشمس، وضمنها ينبغي أن يتمّ بناء خطة للانقاذ والتعافي، وأي كلام يُناقض الوقائع الثابتة، هو مجرد محاولات تمويه لا تهدف الى معالجة الأزمة والخروج منها بقدر ما تهدف الى اضاعة الوقت، وإيهام الناس بأنّ الحكومة قامت بواجبها، وعلى الدنيا السلام.
في المرة الاولى والثانية والثالثة، حاولت الحكومات، حكومة حسان دياب في البداية، ومن ثم حكومة نجيب ميقاتي، قبل وبعد ان صارت حكومة تصريف اعمال، بناء خطط اقتصادية تقوم على إرضاء صندوق النقد الدولي، وتلبّي شروطه السابقة، التي كانت تقضي بشطب الودائع، والاكتفاء بضمان الودائع حى سقف الـ100 الف دولار. مع الاشارة هنا الى ان المشكلة لم تكن تكمن في موقف صندوق النقد، بقدر ما كانت تكمن في طريقة التفاوض مع الصندوق، وحالة العجز القائمة لدى المفاوضين اللبنانيين، لاقناع الصندوق بالخروج عن المعايير الكلاسيكية التي يعتمدها عادة، والانتقال الى معايير تتماهى مع طبيعة الأزمة اللبنانية المعقدة، وهي أزمة نظامية (systemic crisis) بامتياز.
لم يكن مطلوباً منذ البداية إسقاط الخطط القائمة، منذ خطة «لازار» في مرحلة حكومة دياب، بل كان مطلوباً تغيير نهج بناء الخطط لتكون عادلة وواقعية في آن. إذ لا يكفي ان تكون الخطة عادلة، اذا كانت غير واقعية، ولا يمكن تنفيذها. كذلك لا يمكن التسليم بخطة واقعية فقط، اذا كانت تسلب الناس حقوقهم، وتسلب الاقتصاد قدراته على التعافي لاحقاً. اذ لا يجوز ان تكون المُفاضلة والاختيار بين أسوأ خطة، أو لا خطة. هناك مساحة وسطية بين الخيارين يمكن ان توصل الى افضل خطة ممكنة ضمن الوقائع القائمة، وبعيداً من نهج الانكار المدمّر.
من أبرز المسلمات التي ينبغي الاستناد عليها لبناء خطة، او لتعديل الخطة المقترحة وجعلها قابلة للحياة، ما يلي:
اولاً – لا يمكن تمرير خطة فيها شطب للودائع، من خلال التمويه والادعاء انها لا تنصّ على الشطب. هذا الامر لا يمر على الناس.
ثانياً – بعدما قال القضاء كلمته من خلال حكم مجلس شورى الدولة، صار واضحاً انّ اية محاولة للشطب يمكن إبطالها في القضاء.
ثالثاً – بعد موقف النواب حيال ما كان مطروحاً في الخطة السابقة، صار معروفاً انه لا يوجد اي نائب مستعد لإقرار خطة فيها شطب.
رابعاً – الودائع التي تبلغ اليوم حوالى 91 مليار دولار، وبصرف النظر كيف سيتم الاتفاق على تصنيفها بين مؤهل وغير مؤهل، لا يتوفّر منها كسيولة جاهزة اكثر من 11 مليار دولار. والفارق بين المطلوب والمتوفّر، (حوالى 80 مليار دولار)، أنفقته في غالبيته، ومن دون وجه حق، الدولة. قسم من المبلغ أنفقته قبل الانهيار، وقسم آخر أنفقته بعد الانهيار عبر الدعم والسكوت على تعاميم سمحت بانتقال جزء من الاموال، من موجودات في محفظة المصارف، الى ثروات كدّسها مقترضون كبار، معظمهم من الميسورين في الاساس، وإلّا لما كانوا حصلوا على قروض ضخمة من البنوك.
هذه الحقائق، والتي ثبُت بعضها بالأرقام والوقائع بعد صدور تقرير التدقيق الجنائي الذي أنجزته «الفاريز»، تترافق مع وقائع اضافية على جانب كبير من الأهمية، من أبرزها:
اولاً – انّ صندوق النقد بَدّل في نهجه حيال الأزمة اللبنانية، وصار موافقاً ومنفتحاً على حلول مُنصفة وواقعية تقضي بمساهمة الدولة، وهي المتسبّب الرئيسي في الانهيار، في المعالجة.
ثانياً – انّ مصرف لبنان، وعن قصد او غير قصد، يحمّل الدولة مسؤولية تسديد ديونها لكي يتمكّن بدوره من تسديد التزاماته.
ثالثاً – انّ الفرصة مُتاحة في هذا الوضع الاستثنائي للضغط على الطبقة السياسية التي ترفض كل انواع التخلّي عن مكتسباتها في الاستمرار في ادارة مؤسسات الدولة وأصولها، لكي تبقى وكراً للتوظيف السياسي والانتخابي، وموئلاً للنهب وممارسة النفوذ. وبالتالي، سيكون متاحاً اليوم، واكثر من أي وقت مضى، «تشليح» سياسيي السلطة هذه المؤسسات العامة التي حوّلوها الى دكاكين خاصة تابعة لهم، وتسليم إدارتها الى جهات موثوقة في القطاع الخاص، قادرة على انجاز نهضة غير مسبوقة. وكل المؤشرات تدل على ان اية ادارة تعتمد الشفافية والحوكمة وروحية القطاع الخاص، سوف تنقل ايرادات الخزينة الى مستويات مرتفعة لا علاقة لها بالمستويات الكارثية القائمة منذ عشرات السنين.
اذا أصرّ رئيس حكومة تصريف الاعمال على طرح الخطة القائمة للنقاش في جلسة مجلس الوزراء المقبلة، سيكون من مسؤولية الوزراء وضع هذه الحقائق نصب أعينهم، واجراء التعديلات الضرورية لتحويلها من مخطط تدميري الى خطة فعلية للانقاذ. واذا تعذّر ذلك، خصوصاً انّ الوزراء ليسوا جميعاً خبراء مال واقتصاد، قد يكون من الأفضل اعادة الخطة الى مصدرها، وطلب تغييرها وفق روحية العدالة والواقعية. وكل ما عدا ذلك مضيعة للوقت، وامعان في تحريك الخنجر في الجرح النازف.