تُلقي حرب الجنوب عبئاً ثقيلاً على كاهل «حزب الله». فهو يخسر من مقاتليه يومياً، وبينهم كوادر يتم اصطيادهم باستخدام التقنيات الحديثة. وتُستهدف بيئته الحاضنة بضربات قاسية. وهو يتحمّل الكثير من الشكاوى الصادرة عنها والمطالبات بالكفّ عن إقحام لبنان في الأتون الإقليمي.
وبالتأكيد، «حزب الله» نفسه يرغب في إنهاء وضعية الاستنزاف التي يعيشها. ولكن، لا «الحزب» ولا إيران يتركان «حماس» وحيدة ومُستفرَدة في غزة. وفي العادة، تتولى طهران توزيع المهمات في شكل مدروس على أجنحتها في الشرق الأوسط، باعتبارها جسماً واحداً متعدد الأذرع.
لا يعني هذا أنّ «الحزب» لا يمتلك قراره، كما يقول بعض الخصوم. وهو لا يتلقّى التعليمات من طهران، بل يشاركها في صناعة القرارات التي تعني لبنان ومناطق أخرى في الشرق الأوسط. ولذلك، إنّ قراره فتح جبهة استنزاف في الجنوب، لدعم «حماس»، مُتخذ بالشراكة مع إيران.
يريد «حزب الله» وإيران وقف حرب الاستنزاف في الجنوب، إذا تمت مراعاة ثلاثة شروط:
تكريس مكاسب «الحزب» السياسية في السلطة.
ضمان امتيازاته العسكرية والأمنية الميدانية على أرض الجنوب.
عدم استفراد إسرائيل بحركة «حماس» في غزة.
وهذه الشروط هي محور النقاشات التي يديرها الوسطاء، لا سيما الأميركيون والفرنسيون. وعلى الأرجح، نجح عاموس هوكشتاين في جولته الأخيرة في تقديم ضمانات لـ»الحزب» تتعلق ببعض طموحاته اللبنانية والسياسية والعسكرية، لكنها لم تكن كافية. وقد ساهم الإسرائيليون في تسهيل المهمة، عندما تراجعوا عن مطالبهم بانسحاب مقاتلي «الحزب» إلى ما بعد الليطاني. ولكن، بقيت المشكلة الأخرى: حرب غزة، حيث لا مجال لإقناع بنيامين نتنياهو بوقف الحرب.
وكذلك، تقدم الفرنسيون خطوات في اتجاه التسوية، عندما طرحوا تصوراً معيناً متكاملاً لوضع الجنوب. وقد لا يكون «الحزب» معترضاً على الخطوط العريضة للمشروع الذي يطرحونه. لكنّ موافقته على الخطة رهن بوقف الحرب في غزة، وبالثمن الذي سيدفع له سياسياً في الداخل، أي في السلطة.
ففي الواقع، تَتقصّد طهران التعبير عن اعتمادها نهجاً انفتاحياً تجاه الولايات المتحدة والغرب في هذه الفترة، وتعلن استعدادها لإبرام التسويات الإقليمية. وهذا ما عبّر عنه وزير خارجيتها حسين أمير عبد اللهيان في جولته الشرق أوسطية الأخيرة، والتي شملت بيروت، إذ أشار إلى تسويات سياسية تلوح في الأفق. وفي اليوم التالي، لاقاه مسؤولون في «الحزب» بكلام يصبّ في هذا الاتجاه، ومنهم النائب محمد رعد.
يعني ذلك أن التفاهمات بين إيران و«الحزب» من جهة والولايات المتحدة والغرب من جهة أخرى، ربما تكون على وشك التبلور، ولا خلاف عميقاً يعترضها. لكنها موضوعة في الأدراج، انتظاراً لاكتمال العناصر السياسية الملائمة.
وإذ يرى البعض أن العقدة الأساسية تبقى محصورة بوقف الحرب في غزة، وأن لا مشكلة للأميركيين في تكريس سلطة «حزب الله» على قرار السلطة المركزية، ثمة من يجزم بأنّ الأمر هو في الواقع أكثر تعقيداً. فهل يتخلى الأميركيون لإيران عن البقعة الاستراتيجية المحاذية لإسرائيل والمُمسكة بالشاطئ الشرقي للمتوسط، بوابة أوروبا؟
هذه تحديداً هي الورقة التي يلعبها نتنياهو.
فهو يحاول الحصول من واشنطن والغربيين على تغطية لتنفيذ عملية في الجنوب على غرار التغطية التي توافرت للعملية في رفح. وهو يسعى إلى إقناعهم بأن الضربة الاستباقية ضرورية لتقليص قدرات «الحزب»، وإضعاف سيطرته، أي سيطرة إيران، على القرار المركزي في لبنان.
وبناء على هذه النظرة، يفضّل نتنياهو ورفاقه في الحكومة الإسرائيلية عدم تقديم الكثير من التسهيلات لإبرام تسوية سياسية مع لبنان حالياً، إلا إذا كانت مُرضية تماماً لإسرائيل. وهو يعمل لتجييش هذه القوى لتنفيذ الضربة في لبنان، إما الآن، وإما بعد الانتهاء من حرب غزة، أي معركة رفح. وفي المقابل، لإحباط مساعي نتنياهو، تفضّل إيران و»الحزب» سلوك نهج الانفتاح على الأميركيين.
ولذلك، يعيش لبنان نار الرهان الساخن بين خيارين: إما إنجاز التفاهمات بين لبنان و”إسرائيل”، برعاية أميركية وفرنسية، وتحضيرها لتكون جاهزة عند انتهاء الحرب في غزة، وإما نجاح نتنياهو في دفع الجميع إلى المأزق الذي يهربون منه.
ولكن في الانتظار، حرب الجنوب «ماشية» من دون أفق زمني، لشهور إضافية على الأرجح، والخسائر المتوقعة كارثية.