صحيح أنّ بلينكن يحمل ملفا ضخما ومتشابكا ومعقدا عنوانه التمهيد لما بات يعرف باليوم التالي والسعي لإغراء حكومة نتنياهو بالتطبيع مع السعودية مقابل انتزاع موافقة “اسرائيلية” على مبدأ الدولة الفلسطينية وهي مهمة صعبة وغير ميسّرة. ذلك أن الداخل “الإسرائيلي” ما يزال ضد وقف الحرب. ففي آخر استطلاع لمعهد الديمقراطية “الإسرائيلي” جرى منذ أسبوعين تبين أن حوالى 52% يعارضون الافراج عن جميع الأسرى الامنيين الفلسطينيين وإطلاق المحتجزين “الاسرائيليين” لدى حماس، في مقابل 39% فقط يؤيدون ذلك. وأن نسبة 68% تعتقد أن الحرب ستستمر لأكثر من شهرين و46% يقولون انها ستمتد لأربعة أشهر. وهو ما يعني أن الشارع الإسرائيلي لم يتعب بعد من الحرب.
كذلك فإنّ 46% يعرضون إجراء تحقيق فوري للحكومة بسبب «طوفان الأقصى» في مقابل تأييد 26%. وهذه الأرقام لا توحي بمرونة “اسرائيلية” داخلية.
ولكن الضغوط الأميركية على نتنياهو جعلته أكثر قبولا لصفقة وقف إطلاق النار وإجراء التبادل، وربما تراهن واشنطن على اتّساع دائرة الصراع الداخلي ما سيدفع الى تطيير حكومة نتنياهو والذهاب بعدها الى انتخابات وحكومة جديدة متعاونة أكثر مع الطروحات الأميركية.
إلا أن الآمال الحالية هي بتحقيق وقف إطلاق النار وإنجاز صفقة تبادل الأسرى بين إسرائيل وحركة حماس، وهنا نقطة انطلاق مهمة هوكستين.
فلقد بات واضحا أن وقف العمليات الحربية عند الحدود اللبنانية الجنوبية مرتبط بالكامل بوقف إطلاق النار في غزة.
في الواقع نجح اجتماع باريس في تحقيق تقدم كبير حيال وقف إطلاق النار في غزة لكن الاتفاق النهائي ما يزال بحاجة للمسات النهائية والتي سيتولاها بلينكن. ولأن اجتماع باريس حقّق خطوات الى الأمام كان لا بد من مواكبته بتحضير الخطوات المتعلقة بالجبهة الجنوبية اللبنانية. ولأنه من المعروف بأنّ لندن تشكل الكشاف الأمين والمتقدم لواشنطن جاءت زيارة وزير الخارجية البريطاني الى لبنان حاملا أفكارا تمهيدية، وبعد زيارة قام بها وفد عسكري بريطاني الى إسرائيل.
وبات معروفاً بأن الوزير البريطاني حَث على ضرورة تطبيق القرار 1701 عارِضاً أفكاراً تتعلق ببناء أبراج للمراقبة على طول الحدود على أن يسبقها حَل النقاط العالقة من أجل تثبيت الحدود، إضافة الى تعزيز الجيش اللبناني من خلال تطويع عناصر إضافية ما يسمح بنشر حوالى 12 ألف جندي لبناني جنوب خط الليطاني، على أن يجري تأمين الدعم المالي للمؤسسة العسكرية.
وتولّت باريس ملاقاة الأفكار البريطانية ولكن بصيغة أخرى ترتكز على عمل قوات الطوارىء الدولية حيث لفرنسا قوة كبيرة. لكنّ الفرنسيين يطرحون رؤياهم بطريقة أكثر تفصيلاً، واقتراحهم يقوم على تقسيم المنطقة الحدودية الى خمسة قطاعات، بحيث يجري التفاهم على خفض مستوى الحماوة أو تبريدها بدءا من الأقسام الغربية، على أن ينحصر التوتر في القسمين الأخيرين الواقعين شرقاً حيث مزارع شبعا.
ويستحضر الفرنسيون الاتفاق الذي أنهى الإعتداء الإسرائيلي في العام 1996 وعُرف يومها بعناقيد الغضب. وحينها جرى تشكيل لجنة خماسية مهمتها مواكبة ومراقبة تطبيق الإتفاق، ومؤلفة من لبنان والولايات المتحدة الأميركية وفرنسا وإسرائيل وسوريا. وتعتقد باريس بأنه يمكن إعادة تشكيل هذه اللجنة الخماسية كما هي ولكن مع استبدال سوريا ببلد عربي آخر بسبب انشغال سوريا بالحرب الدائرة عندها. وتبدو قطر الأكثر رغبة لتتولى هذا الدور.
وبرز مصطلح جديد في كواليس المهتمّين بتطبيق القرار 1701 وهو بأنّ ما يهم هو مراقبة ما هو فوق الأرض، ما يعني ضمناً أن أحداً لا يهتم بما هو تحت الأرض.
حتى الآن تبدو انطباعات العواصم الغربية بأنّ «حزب الله» يوحي بالتعاون، ولو أن هنالك من يُبدي خشيته من «أفخاخ» تفاوضية كان قد اعتمدها سابقاً «حزب الله» من خلال الوصول الى وقف النار ومن ثم إغراق المفاوضين بالتفاصيل ما سيؤدي الى إجهاض النتائج السياسية المأمولة.
لكن ثمة اختلاف جوهري عن كل ما سبق، فالمشروع الجاري تحضيره لا يقتصر على غزة وحدها بل على كامل المنطقة والتي تخضع لإعادة رسم خارطة النفوذ فيها. ما يعني أن هامش اللعبة ضيّق. والدليل على ذلك تلك «المسرحية» التي تنفذها واشنطن تحت عنوان الثأر لاستهداف قاعدتها في الأردن. فالاتهامات تتوالى داخل أروقة واشنطن حول وجود تنسيق مسبق مع طهران حيال الضربات التي تنفذها إدارة بايدن. وهو ما يعني بأنّ الصراخ في الإعلام لا يعكس حقيقة التفاهمات الحاصلة في الغرف المغلقة.
واستطراداً، فإنّ التحضير لإعلان وقف إطلاق النار في الجنوب فور إعلانه في غزة والانطلاق لبحث الترتيبات السياسية سيعني دخول لبنان مرحلة جديدة لا بد أن تحاكي الصورة الجديدة الجاري رسمها للمنطقة. ومن هذا المنطلق استعادت اللجنة الخماسية حركتها وباشرت «التحمية» وهذه المرة بدفع واضح من السعودية.
وجاءت البداية مع سفراء هذه الدول في بيروت واجتماعهم التنسيقي في دارة السفير السعودي، والذي تلاه الاجتماع بالرئيس نبيه بري.
ولكن تبقى المحطة الأهم المنتظرة الاجتماع الذي يحمل الرقم 4 للجنة، والذي سيعقد مبدئياً في الرياض.
وخلال الأيام الماضية أبلَغ الموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان بعض السفراء المعنيين الذين التقاهم في باريس بأنه يستعد للتوجّه الى القاهرة والدوحة، ومن ثم الى الرياض خلال الاسبوعين المقبلين بانتظار أن تكون السعودية قد حددت بالضبط موعد الاجتماع.
في القاهرة سيقف على خاطر المسؤولين المصريين الذين كانوا يرغبون باستضافة الاجتماع الرابع. أما في الدوحة فسيُبدي ملاحظاته حيال عدم الالتزام بما كان قد سمعه حول حركة الموفد القطري الى لبنان والالتزام بالتنسيق المسبق. وتردد أنّ الموفد القطري وخلال لقائه بـ«حزب الله» طرح فكرة بأن يجري وضع لائحة من عدة أسماء بمَن فيهم فرنجية بالتفاهم مع «حزب الله»، وأن يتولى مجلس النواب اختيار أحدها. لكن الجواب كان: ليس لدى «حزب الله» سوى اسم واحد هو سليمان فرنجية.
وليست هذه هي الاشارة الوحيدة لوجود مزاحمة ومناكفة بين فرنسا وقطر في لبنان. فبعد انتهاء اجتماع السفراء الخمس مع الرئيس بري، بالغَ السفراء خلال إدلائهم بتصاريحهم الاعلامية في الحديث عن الموقف الموحّد. في الواقع كانوا يجهدون لإخفاء التباينات الموجودة، والتي أدت في المرة الأولى الى تأجيل الموعد مع بري بسبب ما اعتبرته السفيرة الأميركية تجاوزاً لها، وأيضا لإطلاق النار القطري ولو بكاتم للصوت على الدور الفرنسي من خلال مهمة لودريان.
ففي الكواليس انّ القطريين بدأوا يطرحون بشكل جانبي وجوب وضع مهلة أمام مهمة الموفد الفرنسي، على ان تنتهي مع نهاية هذا الشهر. إذ لا يجوز أن يستمر في مهمة من دون تحقيق تقدّم أو خرق واضح ما يعرّض مهمة اللجنة الخماسية كلها للفشل. طبعاً هذا الكلام لم يحصل بشكل مباشر بل جرى تناقله بشكل خافت. لكن، ما حصل في الاجتماع عند الرئيس بري سلّط الضوء اكثر على الحساسية الموجودة. فخلال اللقاء انبرى السفير القطري سائلاً بري ما إذا كان لديه ملاحظات على مهمة لودريان، وكان واضحاً أنه يفتح الباب لتوجيه انتقادات للودريان. وطبعاً التقط رئيس المجلس بسرعة ما حصل، لكنه فضّل إبقاء الأمور تحت السقف المرسوم خصوصاً أنّ السفيرة الأميركية لم تحمل مواقف لافتة أو حاسمة، ما يعني بأنّ اللحظة الإقليمية لم تَحِن بعد. فالجميع يدرك بأن واشنطن هي الجهة الدافعة. فهي التي تتولى مهمة جمع الأجزاء على كامل رقعة الشرق الاوسط. ما يعني أنها الطرف الوحيد القادر على تحديد «المومينتوم» الصحيح والمُنتج، بدءا من غزة ومرورا بإيران وسوريا وانتهاء بجنوب لبنان.
فعدا الشخصية الحازمة التي تتعمّد الظهور بها ليزا جونسون، فإنه من الواضح وجود برنامج تحمله ويستوجب منها التنسيق الدائم مع رؤسائها في واشنطن ويدفعها للبقاء حَذرة في تعليقاتها ومهتمة أكثر بمتابعة أدق التفاصيل.
وقد يكون للتنافس القطري والفرنسي أسباب أبعد من الملف الرئاسي بحد ذاته. فلقطر دورها الأساسي في غزة، رغم أن هنالك من يعتبر أنه سيرفع من حساسية إيران تجاهها مستقبلاً. كذلك فإنّ قطر أصبحت شريكاً في التنقيب عن الغاز في البحر اللبناني، وهدفها سياسي أكثر منه تجاري، خصوصا أنها تمتلك أكبر احتياط للغاز في العالم، وهي صاحبة قدرات مالية ضخمة وقادرة على مساعدة لبنان. وأن قطر رَعت اتفاق الدوحة عام 2008 والذي أدى الى إنهاء الشغور الرئاسي يومها. وبالتالي، ومع إعادة رسم الخارطة السياسية في المنطقة فهي قد تكون تطمح لدورٍ فاعل من خلال الساحة اللبنانية. وهو ما يفسّر اهتمامها أيضاً بأن تكون بديلاً عن سوريا في اللجنة الخماسية التي تقترحها باريس لمراقبة القرار 1701.
أما فرنسا فهي تتمتع بنفوذ تاريخي في لبنان وهي تتمسك به أكثر مع خسارتها لنفوذها في الساحل الغربي لأفريقيا. أضِف الى ذلك أنّ جزءا كبيرا من البنية التحتية اللبنانية ما يزال فرنسياً. وهي على تنسيق وتفاهم مع الادارة الاميركية لا سيما حيال دورها في لبنان. وهي موجودة بشكل فاعل في قوات الطوارىء الدولية، ولديها قدرة التواصل مع اسرائيل كما مع إيران و«حزب الله». كذلك، فإنّ علاقة فرنسا مع السعودية هي في أفضل مراحلها.
لكن تلك المناكفات توحي بأننا ما زلنا في الوقت الضائع، رغم أن السعودية تريد بياناً ختامياً نوعيّاً لاجتماع اللجنة الخماسية على أرضها. وربما لذلك تأخّرت بعض الشيء في تحديد موعد للاجتماع، بانتظار اتصالاتها بواشنطن وجلاء المشهد الإقليمي بشكل أوضح ما يسمح برسم خارطة طريق لبنانية. رغم أنّ الأجواء الغربية باتت أكثر تفاؤلاً بالذهاب الى وقف للنار في غزة وتبريد الجبهات في جنوب لبنان.