إعلان واشنطن عن سحب حاملة الطائرات الأميركية الأكثر تطورا في العالم جيرالد فورد من البحر المتوسط وإعادتها الى بلادها، وإعلان “اسرائيل” عن سحب خمسة ألوية قتالية من غزة ، شكلا ظاهريا مسارا معاكسا للحرب المدمرة الدائرة في غزة. خصوصا وأن المعارك ما تزال دائرة بشراسة وأن التطورات متسارعة إن في لبنان أو في البحر الأحمر أو في سوريا أو حتى في إيران.
لكن مع شيء من التدقيق يمكن تبيان الخيط الذي يربط بين هذه التطورات على مختلف الساحات . فوفق التقديرات “الاسرائيلية والأميركية” على السواء يتبين أن الهدف الذي يشكل تقاطعا بين واشنطن وتل أبيب بات قريب التحقق . والمقصود هنا تراجع القدرة العسكرية لحركة حماس ، بعد أن جرى حصرها في جنوب غزة . في كل الأحوال فإن القتال البطولي للمجموعات الفلسطينية طوال ثلاثة أشهر وأمام أعتى الاسلحة وأكثرها فتكا فاق كل التقديرات والتوقعات . وفي المقابل ظهر الجيش “الاسرائيلي” في صورة ضعيفة ومفككة إثر عملية “طوفان الأقصى” ، وكادت “اسرائيل” تنهار بشكل كامل لولا الاستنفار الاميركي السريع .
ورغم ذلك كرس ذلك النهار خسارة “اسرائيل” للدور الذي رسمته لنفسها والوظيفة التي سعت لأن تتولاها كضامن أمني ومحوري في الشرق الاوسط . وهي ارتكزت على قوتها لتسعى لتسويق مشروع قيادتها وتطبيعها مع دول المنطقة .
في الواقع مهما فعلت “اسرائيل” فهي خسرت هذا الدور الذي سعت إليه دائما ، إلا إذا حازت على الضمانة الأميركية وهنا بيت القصيد .
فالتقاطع “الأميركي _ الاسرائيلي” حول إبعاد التأثير الايراني عن الساحة الفلسطينية من خلال تفكيك التركيبة العسكرية لحركة حماس لا يعني بالضرورة أن التفاهم قائم لما بات يعرف باليوم التالي .
وأذا كان التزامن في الاعلان عن سحب حاملة الطائرات الأميركية والألوية “الأسرائيلية” الخمس يوحي بانخفاض مستوى الخطر على “اسرائيل” الا أن المشهد مختلف على مستوى المنطقة .
في الأساس فإن قرار استقدام حاملة الطائرات الأميركية الأكثر تطورا إنما كان يهدف لضبط العاصفة التي اندلعت في غزة ضمن إطار محدد على مستوى المنطقة ، بدءا من تركيا شمالا ومرورا بسوريا ولبنان والأردن ، ووصولا الى الخليج العربي . وبالتالي فان رحيلها يعني منطقيا تراجع مستوى الخطر . والمقصود هنا ليس وقف الصراع بل استمراره ولكن تحت سقف محدد بوضوح وحاسم . واستطرادا فان تراجع حدة ووحشية الحرب في غزة لن يعني اقفال ملف الصراع في المنطقة ، لا بل على العكس ولكن وفق سقف لن يجري تجاوزه. أو بتعبير آخر : سخونة من دون لهيب .
فالمنطقة يجري إعادة ترتيبها ، ويكفي التذكير هنا بمشروع ربط الهند بدول الخليج ومن ثم “اسرائيل” فأوروبا . وقد تكون واشنطن ترى أنها الطرف الدولي الوحيد الذي ازداد تأثيره في الشرق الاوسط بعد حرب غزة . وهذا يشكل تحول كبير في المنطقة .
ووفق هذا العنوان يمكن قراءة المواجهات البحرية في باب المندب بين الحوثيين وايران من جهة وواشنطن وحلفائها من جهة أخرى . فإيران التي كانت تجد مكسبا في رهانها على الوقت خلال تعاطيها مع أزمات المنطقة ، قد تكون وجدت عكس ذلك في استهلاك الوقت في حرب غزة .
ولكن سعي إيران من خلال الحوثيين لفرض نفوذها على الممرات البحرية التي تحتضن أكثر من 12% من حركة التجارة الدولية ، شهد بداية ردة فعل خجولة من التحالف الدولي قبل أن يتطور الموقف لتشكيل تحالف دولي والقيام برد أدى الى إغراق أربع زوارق بمن فيهم .
ومن المنطقي أن تكون ايران تريد اقتناص الحد الأقصى من المكاسب الاقليمية بدءا من بسط نفوذها على البحر الأحمر ، لكن الجواب الأميركي جاء سلبيا .
وأغلب الظن أن واشنطن تدرك وجود نقاط ضعف عدة داخل ايران بدءا من الاقتصاد الصعب الى تململ شريحة الشباب من عدم وجود إطار تجديدي وهو ما ظهر خلال الاحتجاجات الشعبية، ووصولا الى حماية استمرارية النظام القائم .
ومن هذه الزاوية يمكن تفسير الرسالة الدموية التي جرى توجيهها في ايران بالقرب من مرقد قاسم سليماني وفي الذكرى الرابعة لاغتيال من كان يتولى مسؤولية تركيز النفوذ الاقليمي لايران .
ومن هذه الزاوية ايضا يمكن قراءة اغتيال المسؤول البارز في الحرس الثوري الايراني والذي يتولى حصرا ملف التواصل مع سوريا .
ومن الزاوية نفسها أيضا يمكن قراءة إغتيال نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس صالح العاروري في الضاحية الجنوبية في رسالة متعددة العناوين .
بالتأكيد ايران لن تسلم بسهولة . أغلب الظن أنها ستبرز “مخالبها” ولو تحت سقف محدد ، إن في البحر الأحمر رغم الوساطة الناشطة التي تتولاها سلطنة عمان ، أو في سوريا رغم الصمت الروسي والذي هو أقرب الى الموافقة على ما يحصل ، أو في الضفة الغربية حيث تبقى الساحة المثالية لتوجيه ضربة الانتقام لاغتيال العاروري وهو الذي كان يتولى مسؤوليتها . وأيضا في لبنان حيث الحرب الصغيرة الدائرة في الجنوب مرشحة لحماوة أكبر ولو تحت السقف المحدد . أضف الى ذلك أن المطروح ترتيب تفاهمات سياسية جديدة تحت عنوان تنفيذ القرار 1701 وتثبيت الحدود اللبنانية الجنوبية .
هذا اضافة الى الأزمات الداخلية الصعبة وفي طليعتها الاستحقاق الرئاسي .
الاعتقاد السائد بأن اغتيال العاروري يؤشر لبدء مرحلة جديدة من الاغتيالات . إلا أن الحسابات لا تقف هنا فقط ، بل ثمة اسئلة ملحة وتتعلق باليوم التالي تحديدا . منها مثلا ما يتعلق بصورة المخيمات الفلسطينية في لبنان مستقبلا . كذلك عن تداعيات تحول حركة حماس الى تنظيم سري غير مرئي في حال نجحت اسرائيل في القضاء على تركيبتها العسكرية . والأهم مستقبل الساحة السنية في لبنان والتي تعاني أساسا من فراغ على مستوى القيادة ، وكيفية تفاعلها مستقبلا مع هذه التأثيرات . وبالتالي فان هذه الملفات اضافة الى الملفات الأخرى المعروفة لا بد أن تكون موضوعة على الطاولة خلال البحث بمستقبل الأزمة اللبنانية .
لكن ووفق ما رشح من معلومات فان الاتصالات الدائرة بين الدول الخمس المعنية بالملف اللبناني تبحث إمكانية عقد اجتماع لها في بحر الشهر الحالي في باريس لترتيب برنامج التحرك والذي سيحمله معه الموفد الفرنسي جان إيف لودريان خلال جولته المقبلة، كما الموفد القطري.