الحدود التي يبلغها اعتراض أي إدارة أميركية على قصف المدنيين وتدمير المدن معروفة ومجرّبة، سواءً كان سيد «البيت الأبيض» جمهورياً أو ديموقراطياً. وأبرز النماذج أنّ إدارة الرئيس السابق باراك أوباما بقيت تعترض على سقوط أعداد كبيرة من المدنيين في الحرب السورية، واتهمت نظام الرئيس بشار الأسد باستخدام أسلحة مواد كيميائية في هذا المجال، لكنها لم تتخذ أي إجراء عملاني يوقف ذلك. وعلى العكس، أطلق أوباما نهج الانسحاب من الشرق الأوسط، وترك سكانه يتدبّرون أمورهم بأنفسهم.
عندما تلقّت إسرائيل صدمة 7 تشرين الأول، بما فيها من خسائر بشرية وصفعة معنوية، أرسلت واشنطن أكبر بوارجها إلى شواطئ الحليف الشرق أوسطي، ثم أطلقت يده للانتقام بالطريقة التي يريدها، ولاستعادة صورة الجيش الإسرائيلي المتفوق، ولو اقتضى ذلك سقوط أرواح كثيرة بين المدنيين في غزة.
لكن الأميركيين لا يستطيعون، وخصوصاً في ظلّ إدارة يقودها الحزب الديموقراطي، أن يباركوا شلال الدم والتدمير والتهجير إلى ما لا نهاية. ولذلك، طالبوا إسرائيل- علناً على الأقل- بوقف المجزرة، لأنّ ما حصل في الأسابيع الأولى كان كافياً لإعادة المعنويات إلى الجيش، ولو بالتدمير.
طبعاً، نتنياهو لم يوقف العملية في غزة، وهو لن يفعل، في غياب أي ضغط حقيقي يجبره على ذلك، بل إنّه سيستفيد من الظرف لتحقيق أهداف عدة:
1- استثمار التعاطف الدولي للحصول على مزيد من المساعدات بالمال والأسلحة وأجهزة الإنذار والدفاعات المبكرة من الولايات المتحدة، تحت عنوان: تجنّب أي صدمة مماثلة في المستقبل.
3- تحضير الأرضية المناسبة لتنفيذ المخطط القديم المُعدّ لغزة، وللضفة الغربية أيضاً. ويوماً بعد يوم، يتضح ذلك بعمليات التهجير الممنهجة من شمال القطاع ثم من جنوبه. والمنطقة العازلة التي يلوّح بها نتنياهو هي إحدى الصيغ التي ستقود واقعياً إلى التهجير.
4- ترتيب الوضع على الحدود الشمالية مع لبنان، بضمان أميركي، عنوانها إنعاش القرار 1701 وفتح الباب لتفعيله وتوسيع نطاقه.
فـ»حزب الله» لن يمنح إسرائيل ذريعة لتسديد ضربة مدمّرة إلى لبنان شبيهة بضربة غزة، وهو لن يخطئ بجعل نفسه هدفاً مباشراً للإسرائيليين كما هي «حماس» اليوم، ولن يبادر إلى رفع مستوى السخونة الحالية في الجنوب. وهذا الأمر يمكن أن يتيح المجال لتفعيل الوساطة الأميركية على الخط اللبناني، عبر عاموس هوكشتاين.
الخطة التي يعتمدها الإسرائيليون هي إطالة مدة القتل والتدمير، بحيث يتيح لهم عامل الوقت أن يحققوا أهدافهم تحت أعين الرأي العام العالمي الصامت، فيما يكون الأميركيون منشغلين بمنافساتهم الرئاسية، ويحتاج كل مرشح إلى تدعيم حظوظه بالصوت اليهودي.
سيضع نتنياهو «رأسه برأس» بايدن. وأساساً، على مستوى السياسة والطباع الشخصية، نتنياهو يفضّل دونالد ترامب. وفي المقابل، يفضّل الرئيس الأميركي عودة اليسار إلى الحكم في إسرائيل، لعلّ التفاهم معه يكون ممكناً. ولذلك، في البيت الأبيض كما في إسرائيل، هناك رغبة متبادلة في اقتلاع الآخر من الحكم. ولكن، هناك عام على الأقل سيضطر خلاله الرجلان إلى التعايش. وليس مضموناً أن ينجح بايدن في اقتلاع نتنياهو لأنّ الصوت الوحيد المرتفع في إسرائيل هو صوت المعركة.