عموماً كلّ الكلام صعب. وثمن الكرامة ثقيلٌ ثقيل. نستسخف فعل الكتابة أمام هول المجازر. تُقصفُ غزة بمشهدٍ من مشاهد المحرقة الرهيبة ، وفي لحظة غضبٍ مهول وتحسس للمسؤولية، يستجمع الحرف/الدم نفسه، ويسيل.
عنوان هذا المقال مستوحى من صبيحة اليوم، السابع من أكتوبر/ تشرين الأول من عام 2023،حيث استيقظت اسرائيل على هجوم بري عنيف ينفذّه مئات المقاتلين من كتائب القسّام على مستوطنات ومواقع غلاف قطاع غزة، وتصاحبه غارات صاروخية بكثافة غير مسبوقة في تاريخ المقاومة يتجاوز عددها 5000 قذيفة صاروخية في الدقائق العشرين الأولى للعملية، كما أعلن القائد العام لكتائب القسام محمد الضيف في خطابه للشعب الفلسطيني، وللأمة العربية والإسلامية، بُعيد البدء بتنفيذ العملية.
التقطت كتائب القسام ،الجناح العسكري لحركة حماس بحذاقة ، بالغة نقطة الضعف القاتلة في كيان العدو، وهي المباغتة الاستراتيجية، والتي أفقدته وعيه ورشده وقدرته على التفكير حتى من هول الصدمة، وهي بذلك حصدت نصف النصر في الساعات الأولى للمعركة، والنصف الثاني ستحصده بالصبر وإتقان لعبة المفاوضات.
ان “طوفان الأقصى” الذي أدخل المنطقة بأسرها في حالة حرب ، يتخطى المساحة الفلسطينية في القدس والخليل وبيت لحم ورام الله، ليمتد الى القاهرة ودمشق وبيروت وبغداد ،وهو ليس نتاج عمل المقاومين وجهدهم وتضحياتهم فقط، بل هو تعبير أيضاً عن الروح الفلسطينية التي تتجدد في مواجهة الاحتلال والعسف والهمجية.
“طوفان الأقصى” يُبنى من جديد على أنقاض وهم السلام ووهن المستسلمين وجبن المتعاونين مع الاحتلال.
لا تشهد فلسطين ولادة جديدة، مع أنها أم الولادات، بل تشهد اليوم، ومع فدائييها، انعطافة كبرى ستكون بشارة ولادة زمن فلسطيني جديد، له عنوان واحد هو الكرامة الانسانية ، وأداة مركزية هي الوحدة التي تتبلور في ساحات المواجهة.
ضريبة الدم كبيرة وفادحة، لكنها الطريق الوحيد لاستعادة الروح، وبناء وعي جديد يطيح بالوعي الاستسلامي الزائف الذي ساد بعد هزيمة الانتفاضة الثانية.
إنه صراع بين وعيَين: وعي بأن اسرائيل العنصرية لا تريد أقل من الاستيلاء على فلسطين كلها وتهويدها وتدنيس مقدساتها ، وتفرض استسلاماً “تنسيقياً” على الشعب الفلسطيني، وهنا لم تعد المقاومة خياراً، وإنما صارت تجسيداً لإرادة الحياة، وعنواناً للبقاء، وأفقاً للحرية؛ بوجه كل لعبة تسلطية تقتات من وهم سلام لم يعد ممكناً حتى بصيغته الاستسلامية الراهنة.
هناك بذور تولد من المناخ المقاوم وهو يرسم صورة كاملة قد تفاجئ الكثيرين. فالأحداث الدموية التي عاشتها فلسطين خلال السنوات الماضية ، تقدم حين نجمعها، صورة شاملة للغليان الذي سبق العاصفة.
“طوفان الأقصى”هو دعوة كي تستعيد الكتابة معناها ودورها، كأداة للتعبير عن وقائع وآفاق جديدة، في اعادة الاعتبار لتحرير فلسطين على ايدي الأجيال الجديدة التي لا تزال تبحث عن جواب لسؤال التحدي الذي مثّله ضياع فلسطين في سنة 1948 (وهذا التحدي، في الحقيقة، لا يتعلق بالفلسطينيين وحدهم مثلما قد يحلو للبعض تصويره، بل هو من النوع العلائقي الذي أصابت حُمّاه عواصم العرب: القاهرة وبغداد وعمّان ودمشق وبيروت والرباط والرياض وطهران وصنعاء والخرطوم، وهو من هذا النوع الذي يهمّ العرب بالمقدار الذي يهمّ الفلسطينيين أنفسهم). وكان خطأ العقل العربي التقليدي الذي نحا في اتجاه “الواقعية” التي هي أشبه بـ “الاستسلام “، أنه يجب تجنُّب طرح الأسئلة التي توصل إلى الخلاصات والأجوبة الصحيحة.
الحقيقة أن السياسة لدينا مورست بالمقلوب، فالعلوم السياسية تخبرنا أن القوة (Power) المادية العارية والمباشرة هي عمود من أعمدة “المدرسة الواقعية”، وليس الإمعان في الضعف وتكريسه. فحتى “لاعنفية غاندي” كانت تبني قوة من نوع انطوى على الانبعاث والتحرر الذاتي، ذلك بأن الواقع الواجب تغييره يحتاج إلى أدوات قوة لتغييره، وليس إلى مطاوعته والخضوع له!
المشكلة أن عقلية الضعف والوهن هذه، التي طالما حدثنا عنها الراحل محمد حسنين هيكل، والتي كانت تأكل روح وجسد الدول العربية ، بات لديها أكثر من مجرد انبهار بقوة وعقلية وعلوم الأعداء والتي وعظتنا بأننا أقل شأناً من مقاتلة “إسرائيل”… والمسألة لم تعد لدى أصحابها تقف عند هذا الحدّ، بل إن هناك بعض العرب مَن أصبح لديه مانع في تحرير فلسطين! ومستعد أيضاً للدخول في خطط وسياسات منهجية من أجل تقويض ذلك ومنعه، وهذا مستوى غريب بلغة هؤلاء الواقعيين الذين كان لديهم قلّة ذاتٍ حيثية شحيحة واستلاب أيديولوجي وسياسي واعتراف بـ “إسرائيل” منذ يومها الأول، ولم يؤمنوا بتحرير فلسطين ولا بالمقاومة من أجل الحفاظ على الارض والعرض، لكنهم “لم يمانعوا” على الأقل إذا ما فعل الآخرون ذلك. لكن بعض أولئك الواقعيين جداً، صار اليوم يعترض ولديه مانع، نظري وعملي، ويعتبر موقفه هذا، موقف “إجماع وطني” بل بات يُسقط الآخرين (وهم كثر جداً) من إجماعه هذا باعتبارهم أصحاب “أجندة سلطوية” ضيقة. وهكذا، يصبح التمسك بـ “تحرير فلسطين” الذي كان ذات يوم “أبو الأهداف الوطنية”، مجرد طرح عصبوي نزق وضيّق، يوصَم أصحابه بالحالمين غير الواقعيين وغير العقلانيين!
هناك دعوات ملحّة منذ أعوام طويلة إلى إجراء مراجعة شاملة ومناقشة ما آلت إليه الحال، وذلك بعد الكوارث والخراب الذي ألحقته اتفاقيات كامي ديفيد وأوسلو ووادي عربة بالشعوب العربية وبالقضية الفلسطينية. فالكلام التوفيقي الملتفّ على مواجهة الحقيقة لم يعد مجدياً، كما أن من دون مواجهة الحقائق الصلبة، على مرارتها وقسوتها، لن يكون هناك فائدة تُرجى من أي نقاش أو حوار.
ومن أجل المساهمة في تحرير النقاش وفي إرساء بعض الاستخلاصات التي يمكن البناء عليها، فإننا هنا نسجل وندعو إلى ما يلي:
إذا كان هناك إجماع على شيء في الساحات العربية خلال الأعوام الأخيرة، فإنه على أن مسار التطبيع فشل فشلاً ذريعاً. ولم تقل ذلك إعلانات ولا تصريحات ولا تقييمات رافضي هذه الاتفاقيات ومعارضيه فقط، بل قالته أيضاً إعلانات وتصريحات وخلاصات ومرارات اصحابها أنفسهم على اعتبار انها جاءت بحكم ضرورة مواجهة اللحظة ووطأتها .
وإذا كان الاعتراف بالمشكلة هو نصف حلّها، مثلما يقول علم النفس، فإن الشجاعة والمسؤولية تقتضيان الاعتراف العلني بالخطأ الذي ارتُكب على مسار اتفاقيات السلام التي اصبحت مع الايام إحدى مسلّمات بعض الإجماع السياسي العربي والفلسطيني
ان هدف “تحرير فلسطين”، في الحقيقة، يفرض على المعنيين بالعودة إلى الأصل والجذر وإشهار وهي تعتمد على فعل الإرادة، وأجيالنا الراهنة تملك استعداداتها العالية التي تؤهّلها للمقارعة والمنازلة، مع ظرف دولي يشهد تغيرات عميقة تتيح المجال لإحداث تسجيل نقاط فارقة على طريق التحرير، إذا ما انتظم الفعل النضالي السياسي والاقتادي والعسكري واتّسق في مسار تحرري حقيقي.
لذلك، إن العودة إلى “تحرير فلسطين” هي عودة إلى تحقيق الانسجام والتناغم والاندماج الكلي لجميع الفلسطينيين، وعودة الروح إلى الجسد بعد أن جعلتنا اتفاقيات التطبيع لا نشبه أنفسنا.
المصدر:”الموقع:الحوار المجتمعي”
**