على قاعدة «تعدّدت الأسباب والموت واحد»، كل المؤشرات تدل إلى صعوبات كبيرة أمام انطلاق العام الدراسي في المدارس الرسمية هذا العام. فحتى لو رضخ الأساتذة لضغوط الروابط ووزير التربية الذي يتلهّى بقرارات همايونية بفرض عقوبات عليهم، تفتقد صناديق المدارس الى الأموال اللازمة لتغطية المصاريف التشغيلية كالكهرباء والانترنت والقرطاسية ومازوت التدفئة في المدارس الجبلية. في دراسة للباحث التربوي عدنان الأمين حول السياسات الحكومية والخسائر التربوية (أنظر مقالة نعمة نعمة)، يلفت إلى أن وزارة التربية تتغنّى بالمشاريع الكبرى المموّلة من الجهات المانحة والخطط الخمسية، فيما النتائج كارثية: سنوات تعليم متعثّرة، شهادات رسمية متدنية المستوى، تسرّب مدرسي متفاقم، غياب التفتيش التربوي والتدقيق المالي وتراجع للمستوى الاجتماعي للمعلمين… هل هناك أكثر من ذلك قبل إعلان «موت التعليم الرسمي»؟
لا ضمانة لانطلاقة العام الدراسي الحالي من الناحية التشغيلية. لو عاد الأساتذة غداً إلى دوامهم، وتعهّدوا بأنّ العام الدراسي سيمرّ من دون يوم إضراب واحد، لن تكون المدارس الرسمية قادرة على فتح أبوابها للتعليم، إذ لا أموال لتغطية المصاريف التشغيلية في صناديق المدارس التي تغذّيها أموال تسجيل التلامذة. وفيما لا يمكن للمدرسة أن تعمل قبل تأمين هذه المبالغ، لا يمكن تأمين الأموال قبل فتح المدارس. هذه الدوّامة التي دخلتها الثانويات الرسمية لا إمكانية للخروج منها في المدى المنظور، خصوصاً أن المصاريف التشغيلية تضخّمت بشكل لا يمكن لرسوم تسجيل التلامذة أن تواكبه. ومع غياب أي دعم رسمي أو من الجهات المانحة، تقف إدارات الثانويات حائرةً على مشارف 25 أيلول، اليوم الأول لفتح المدارس وإطلاق الأعمال التحضيرية والتسجيل فيها.
تدفع المدارس الرسمية تكاليفها التشغيلية من صندوق مالي مستقل خاص بكل منها أنشئ بموجب المادة 49 من قانون «تنظيم التعليم الرسمي»، «يُنفق منه في الحالات التي تستدعيها مصلحة الثانوية ومصلحة التلاميذ». وتُموّل هذه الصناديق من المساهمات المالية للتلاميذ، و«من الواردات الأخرى المختلفة». وبعد تعديل وزير التربية عباس الحلبي رسم التسجيل في التعليم الثانوي، ارتفع المبلغ الذي يدفعه الأهالي بنسبة تقارب 688%، وأصبح 6 ملايين ليرة بعد أن كان 870 ألفاً.
لكن، رغم الزيادات «الصناديق فارغة تماماً بعد أن استهلكت كلّ موجوداتها العام الماضي من دون وصول أي شكل من الدعم»، بحسب رئيس لجنة مالية في إحدى الثانويات. فـ«مع انهيار قيمة العملة الوطنية، باتت الأموال من دون قيمة، فيما الموازنة التشغيلية في تضخم مستمر». فعلى سبيل المثال، لم تكن كلفة تعبئة خزان المازوت لستة أشهر قبل الأزمة تتجاوز ثلاثة ملايين ليرة، فيما تتخطى الآن 180 مليوناً، أي أكثر مما تجمع أي ثانوية من أموال التسجيل في عام واحد.
كذلك، تحتاج المدارس الرسمية إلى مصاريف تشغيلية أساسية لا يمكنها أن تعمل قبل تأمينها. هذه الأموال لا تلفت نظر غالبية المتابعين لأحوال التعليم، فلا يأتون على ذكرها إلا لماماً، لكنها أساسية ويستحيل الاستمرار من دون تأمينها. التيار الكهربائي الرسمي غائب، وعبء تأمين الطاقة يقع على المولّدات الخاصة فيها أو الاشتراكات. والدعم من وزارة التربية بالقرطاسية غير موجود، حتى الصيانة الأساسية تقع تكاليفها على صناديق المدارس. إلى ذلك، هناك مصاريف التدفئة في المناطق الباردة، وصولاً إلى أجور عمّال المكننة والنظافة والخدمة في المبنى، كما أن عقود بعض الأساتذة المتعاقدين هي على «حساب صندوق الأهل».
وسط انعدام القدرة المالية للإدارات على تشغيل المدرسة الرسمية لجأ بعض المديرين إلى الاستدانة بشكل شخصي لتأمين الخدمات الأساسية كالكهرباء والإنترنت والماء. ولكن، «لا إمكانية للاستمرار على هذا المنوال»، بحسب مدير ثانوية، فـ«الديون تراكمت على المديرين شخصياً وصرنا نقفل هواتفنا هرباً من الدائنين، أو ندفع من مدّخراتنا إن وجدت». في المقابل، وعشية انطلاق العام الدراسي، لا تزيد المبالغ الموجودة في معظم صناديق الثانويات على بضعة ملايين، «لا تكفي حتى لشراء الوقود لتشغيل المولّدات أو دفع اشتراكات الكهرباء في الأحياء». ولم يعد أمام الثانويات سوى «التسوّل من البلديات والمتموّلين في المناطق، وهذا ما طلبته منّا دوائر وزارة التربية»، وفقاً لمدير ثانوية في منطقة الجنوب. غير أنّ غالبية طلبات التمويل بقيت من دون استجابة، إذ إن البلديات مفلسة أساساً، والمتمولين إمّا يدعمون بشروطهم، أو غير موجودين من الأساس في بعض المناطق. هذه الأمور وغيرها دفعت الإدارات للتقشف، من تشغيل المولّد لساعة أو ساعتين صباحاً لطباعة الإفادات وتسيير بعض الأعمال، إلى استخدام الأوراق المستعملة للكتابة عليها.
الوزارة تبذخ من الصناديق
تعاميم وزارة التربية وكرمها في توزيع العطايا والأموال، كل ذلك لا يرحم الصناديق أيضاً. عدد كبير من الثانويات دفع تكاليف التشغيل خلال الامتحانات الرسمية من مازوت وأجراء، ولم تقم وزارة التربية حتى اللحظة برد هذه الأموال. كما يقع على عاتق الصناديق، إضافةً إلى الأعباء التشغيلية، تأمين أجور العاملين التي تطلب الوزارة مضاعفتها بمفعول رجعي ابتداءً من أيار الماضي بعد إقرار المساعدة الاجتماعية لموظفي القطاع العام، ودفعها بالدولار على سعر منصة صيرفة، إضافة الى تغطية اشتراكات الضمان للأجراء، والتي أصبحت أكبر من قدرة الصندوق على تغطيتها. وعلى أرض الواقع، تحوّلت طلبات الوزارة إلى «مكسورات» لا تُدفع. وتسأل مديرة ثانوية في منطقة الضاحية عن سبب «عدم تحمّل وزارة التربية لأجور موظفي المكننة الذين يقومون بالأعمال الإدارية التي تربط المدارس بالوزارة مركزياً، من إدخال ساعات المعلّمين، إلى العلامات، وصولاً إلى إصدار الإفادات الرسمية».
في المقابل، تتعامل المصارف مع صناديق المدارس الرسمية على أساس أنّها أشخاص لا مؤسسات. فتضع سقفاً على السحب لا يتجاوز خمسة ملايين ليرة شهرياً، وتصادر بعض ودائع المدارس الرسمية، إضافة إلى مشكلة برزت أخيراً حول مكان الاحتفاظ بأموال الصناديق بعد الإعراض عن المصارف، إذ لا حلول أمام المديرين سوى المخاطرة والاحتفاظ بالأموال في بيوتهم أو في خزنات داخل المدارس، وكلاهما يجعلانها عرضة للسرقة.
المصدر:”الاخبار – فؤاد بزي”
**