لا تزال الطبقة السياسية في غالبيتها تتعامل مع الوقت والتحديات بخفة واستخفاف، كما درجت ان تفعل منذ فترة بعيدة. ومع انّ المرحلة شديدة الصعوبة، الا انه يتم تقطيعها على قاعدة كل يوم بيومه، من دون الاستناد الى اي منهجية علمية في المقاربة.
بذرائع شتى، تمر الاشهر الثمينة، الواحد تلو الآخر، من غير أن توضع الحلول الجذرية للازمات المتراكمة، خصوصا الاقتصادية والمالية منها.
واذا كان حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري قد تمكن من إمرار آب في سلام، ونجح في تأمين رواتب الموظفين وحاجات الدولة الاساسية بهندسة مالية آمنة، الا انه ليس في كل مرة تسلم الجرة بالضرورة، خصوصا ان الرجل كان صريحا في التنبيه الى ان الاستقرار النقدي الحالي هو موضعي ولا يمكن أن يصبح ثابتا من دون تنفيذ الإصلاحات التي يمكن أن تعود على الدولة بمداخيل تحقق لها الحد الأدنى من الاكتفاء الذاتي وتعفيها من الاستدانة او التسول.
ولكن يبدو أن هناك في الطبقة السياسية من لا يزال يصرّ على اعتماد سياسة النعامة والإنكار، نائماً على حرير الهدوء الحَذر في سعر الصرف وممتنعا عن أي إصلاح بحجّة ان الاولوية الوحيدة في هذه المرحلة هي لانتخاب رئيس الجمهورية، علما انه اذا استمر ربط كل شيء بإنجاز الاستحقاق الرئاسي فقد نصل إلى لحظة نخسر فيها الجمهورية من غير ان نربح رئيساً.
ويحاول منصوري عبر تحذيراته المتكررة حشر القوى السياسية والضغط عليها لدفعها الى إنجاز ما يتوجب عليها من إقرار قوانين وتدابير تساهم في تحسين مردودها وصولاً الى تمكينها من «الفطام» عن المصرف المركزي.
ويلفت القريبون من الحاكم بالإنابة الى انّ هناك مجموعة إجراءات من شأنها، لو تم اعتمادها، ان تؤمن جزءاً لا بأس به من النفقات الضرورية للدولة والتي تقدّر بـ 200 مليون دولار شهريا، كمكافحة التهرب الجمركي الواسع النطاق والذي تلجأ اليه شركات كبرى وتفعيل معالجة ملف الأملاك البحرية، الى جانب إقرار القوانين الإصلاحية.
اما اذا لم تبادر السلطة السياسية الى تحمل مسؤولياتها خلال الأسابيع القليلة المقبلة، فإن العارفين يؤكدون ان منصوري كان ولا يزال مصمما على عدم صرف سنت واحد من اموال المودعين لحساب متطلبات الدولة وعلى عدم مخالفة قانون النقد والتسليف، مستندا في موقفه الى اعتبارين، الأول انه يعرف ان مدة إقامته في الحاكمية محدودة ولا يريد أن ينزلق خلالها الى اي ارتكابات يلعنه عليها التاريخ لاحقاً بل يطمح الى ان يترك بصمة إيجابية، والثاني انّ نموذج رياض سلامة ماثِل أمامه ويشكل أكبر درس له، وبالتالي هو لا يريد أن يكرر السياسات الملتوية التي انتهجها الحاكم السابق طوال عقود وقادَته كما البلد نحو مصير قاتم.
ويكشف المطلعون ان في استطاعة منصوري إمرار شهر أيلول على خير كما فعل في آب، لناحية تأمين كلفة الرواتب والضروريات، من غير الاستعانة بأموال المودعين ولا تهديد الاستقرار الهش لسعر الدولار، «أما بعد ذلك، فإنّ اي اهتزاز قد يحصل ستتحمل تبعاته القوى السياسية ما لم تلجأ الى تغيير سلوكها والخروج من دائرة المراوحة التي تشبه المستنقع الآسن».
وبناء عليه، يلفت العارفون الى ان منصوري لا يضمن صمود «الستاتيكو» الحالي الى ما لا نهاية، خصوصا اذا اتسَعت متطلبات الدولة وزادت الكتلة النقدية بالليرة في السوق، وبالتالي ليس في مستطاع احد التقدير بدقة ماذا سيجري بعد نهاية أيلول وفي أي اتجاه ستتطور الأمور، «ولكن الأكيد ان أفضل طريقة لتفادي الكوابيس المحتملة تكمن في تأدية الـ «homework» الإصلاحي المطلوب من الدولة والنجاح في امتحان اكتساب الثقة والصدقية».
ويشدد هؤلاء على أن البلد في حاجة ملحة الى خطة طوارئ تتجاوز الكيديات والنكايات، وتعتمد وسائل وأنماط غير كلاسيكية في معالجة الملفات، وإلا سيكون لبنان على موعد مع خريف ساخن ماليا واقتصاديا، خصوصا انّ المعروف عنه انه فصل الضغوط والهموم.
المصدر:” الجمهورية- عماد مرمل”
**