تشهد “اسرائيل” تدهوراً فيما يسمى “المناعة الاجتماعية” منذ حرب تموز/يوليو 2006 على لبنان، وذلك بعد أن تبيّن أن الجبهة الداخلية الإسرائيلية كانت الأكثر هشاشة خلال الحرب.
تجدّدت الاحتجاجات في “إسرائيل” على خلفية عودة حكومة نتنياهو إلى الخطة السابقة لما تسميه “إصلاح الجهاز القضائي”، وذلك بعد أن صادق البرلمان، في قراءة أولى، على بند أساسي ضمن خطة “الإصلاح القضائي”، يرمي إلى إلغاء إمكان أن يفصل القضاء في “مدى معقولية” قرارات الحكومة.
يرى المعارضون في “إسرائيل” أن تلك الإصلاحات تقوض الديموقراطية، فيكيلون الاتهامات للحكومة واليمين المتطرف بمحاولة السيطرة على السلطة وكمّ الأفواه، فخرجت التظاهرات مجدداً، وأعلن قائد شرطة “تل أبيب” الاستقالة من منصبه اعتراضاً على طلب الحكومة استخدام العنف ضد المتظاهرين.
في مؤتمر هرتسيليا عام 2015، نبّه الرئيس الإسرائيلي السابق رؤوفين ريفلين إلى تبعات الانقسام الإسرائيلي المجتمعي وتأثيره في مستقبل “إسرائيل” ووجودها، ككل، وقال إن “إسرائيل مركّبة من أربع قبائل، يتعذّر عليها الاستمرار من دون تعاون وتشارك فيما بينها، وهذه القبائل هي: العلمانيون والمتدينون الحريديم والمتدينون القوميون والعرب”.
عملياً وواقعياً، تشهد “إسرائيل” تدهوراً فيما يسمى “المناعة الاجتماعية”، منذ حرب تموز/يوليو 2006 على لبنان، وذلك بعد أن تبيّن أن الجبهة الداخلية الإسرائيلية كانت الأكثر هشاشة خلال الحرب.
وأظهرت الاستطلاعات، فيما بعدُ، تراجع الانتماء و”الافتخار” الوطنيين، وأن سوء القيادة، سياسياً وعسكرياً، وسوء التقدير والتخطيط، كانا من العوامل الرئيسة لخسارة تلك الحرب، كما يورد عدد من المحللين الإسرائيليين، وكذلك تقرير فينوغراد.
بالإضافة إلى ما سبق، أظهرت الانتخابات الأخيرة التي أتت باليمين إلى السلطة أن الهوّة بين “القبائل الاربع” (كما سماها الرئيس الإسرائيلي السابق) اتسعت إلى حد كبير، وأن تضارب المصالح فيما بينها بات يهدد مستقبل “إسرائيل” ووحدتها.
بالطبع، بات التشكيك في مستقبل “إسرائيل” ووجودها أمراً متداولاً داخل “إسرائيل” وخارجها، وهذا يعيدنا إلى النظريات التي تحدثت عن أسباب انهيار الدول، ومنها نظرية ابن خلدون، ونظرية بول كينيدي.
نظرية ابن خلدون
بعد دراسة معمّقة لتاريخ الدول الإمبراطورية، ومنها الدولة الإسلامية، توصل ابن خلدون إلى نظرية تفيد بأن الدول – وخصوصاً التوسعية منها – لا تستطيع أن تعمّر أكثر من فترة زمنية محددة قوامها أجيال أربعة لا تلبث بعدها أن تضمحل وتنهار بسبب تراجع “العصبية” التي تشكّل رابطاً قوياً بين ابنائها، وذلك على الشكل التالي:
الجيل الأول: هو الجيل الذي يتميز بقوة “العصبية” الفائقة، ويعيش حياة خشنة وقاسية، ويستخدم العنف من أجل الدفاع عن الجماعة ويكون مرهوب الجانب. وقد نشبّهه بالجيل الإسرائيلي الذي شكّل العصابات اليهودية ومارس القتل والعنف بحق الفلسطينيين، والذي استطاع اقتناص قرار تقسيم فلسطين، فأعلن “دولته”.
الجيل الثاني: هو الذي يتحقق على يديه المُلك ويؤسس الدولة ويتوسع جغرافياً ويغزو أراضي الآخرين. وعلى الرغم من أن “العصبية” تنكسر لديه بعض الشيء، فإنه لا يستغني عنها وإنَّما يعتمد عليها لإرساء قواعد ملكه، ويعيش على ذكريات الجيل الأول وعصبيته.
الجيل الثالث: ينسى عهد البداوة والخشونة كأنَّها لم تكن، ويفقد إحساس “العصبية” بما لديه من قدرة القهر والبطش، ويبلغ فيهم الترف غايته، وتزداد الهوة بين أبناء العصبية الواحدة. وبما أن الدولة في هذا الطور تبلغ قمة قوتها، فهي تصبح في حالة تجمد، ويبدأ الفساد ينخرها من الداخل، ويبدو صاحب الدولة في هذا العهد متلفاً ما حققه أسلافه.
الجيل الرابع: لا يكاد يذكر لأنَّه فقد الاحترام والسلطة. وفي هذا الطور تصبح الدولة في مرحلة الهرم، ويستولي عليها المرض المزمن الذي لا براء منه إلى أن تنقرض.
ويرى ابن خلدون أن بداية انحلال الدولة يرجع إلى عنصرين، هما: زوال العصبية، وفساد السلطة.
أما بول كينيدي، فيرد ذلك إلى 3 عوامل. الأول مرده إلى الأزمات الاقتصادية داخل الدولة/الإمبراطورية، والثاني هو التوسع المفرط والإرهاق في الميدان العسكري، بحيث يصبح شعب الإمبراطورية بعدها غير مقتنع وغير مؤيد للهيمنة والتوسع، بل يبحث عن أمنه الداخلي.
أمّا العامل الثالث، وهو النقطة الحاسمة بعد فترة من الانحلال التدريجي، فهو الهزيمة العسكرية التي تلحق بالإمبراطورية في حرب ما، والتي تعرّضها فيما بعد إلغزو، فتنهار.
وهكذا، نجد أن الدول لا تنهار دفعة واحدة، بل يبدأ التشظي والتفسخ في النسيج الاجتماعي، وتظهر عليها علامات الضعف والوهن، إلى أن تصيبها هزيمة كبرى، ويدخلها “الاعداء”، فتسقط.
ومن هذه النقطة الأخيرة بالذات، يمكن القول إن حرب تموز/يوليو 2006 كانت البداية التي أظهرت أزمة المناعة الاجتماعية الإسرائيلية، بالإضافة إلى الحروب الدائمة في الداخل مع الفلسطينيين، والتي أدّت إلى فقدان الإسرائيليين الرغبة في العيش في قلق أمني دائم، وتراجعت الرغبة في التجنيد في “الجيش الإسرائيلي”. كلها، بالإضافة إلى السلوك الإسرائيلي الخارجي، وتهديدات “إسرائيل” وضبط النفس الذي تمارسه في الإقليم، أمرٌ يؤشر على “عجز القوة”، وخشية إسرائيلية من حرب جديدة مع لبنان، تؤدي إلى دخول حزب الله داخل فلسطين المحتلة، والقتال داخل المستوطنات. هذه الحرب، إن وقعت، ستكون نهاية “إسرائيل”، شبيهة بالنماذج التي درسها كل من ابن خلدون وبول كينيدي.
المصدر:” الميادين – ليلى نقولا”
**