كتبت صحيفة الجمهورية تقول: في زمن الاتفاق السعودي ـ الايراني، وبينما كانت الانظار متّجهة إلى بكين لرصد خطوات الاتفاق التدريجية، تقدّمت الجبهة الجنوبية اللبنانية إلى الواجهة، وحملت رشقات الصواريخ التي أُطلقت من لبنان في اتجاه بعض المستعمرات الاسرائيلية شمال فلسطين المحتلة، والتي اكّد «حزب الله» عدم مسؤوليته عنها، رسائل عدة. وقالت مصادر حكومية لـ»الجمهورية»، انّ «الضربة الاسرائيلية للشام معطوفة على التطورات في الاراضي الفلسطينية المحتلة، عوامل ولّدت تشنجات كبيرة في المنطقة، وزادها تشنجاً موقف مجلس الأمن المنحاز لاسرائيل. كل هذا استجلب وسيستجلب ردّات فعل في غياب الشرعية الدولية». ورأت المصادر، «انّ الواقع في لبنان الذي يتسبب به المجتمع الدولي الداعم لإسرائيل سيولّد تحلّلاً على مدى قدرة الدولة في بسط سيطرتها الكاملة على الارض».
قفزت الجبهة الجنوبية إلى الواجهة فجأة امس على إثر اطلاق صواريخ على مستعمرات اسرائيلية شمال فلسطين المحتلة، ما جعل الوضع في الجنوب امام احتمالات شتى، في ظلّ توعد اسرائيلي بالردّ على القصف الذي إن حصل قد يدحرج الوضع إلى مواجهة مفتوحة لا يمكن التهكن بمداها.
واكّد رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، خلال لقائه وزيرالدفاع الإيطالي غويدو كروزيتو مساء امس، فور وصوله إلى لبنان في زيارة لتفقّد قوات بلاده العاملة في اطار «اليونيفيل»، «إدانة لبنان وشجبه عملية إطلاق الصواريخ من جنوب لبنان»، مشدّداً «على أنّ الجيش وقوات «اليونيفيل» يكثفان تحقيقاتهما لكشف ملابسات العملية وتوقيف الفاعلين». كذلك شدّد على «انّ لبنان يرفض مطلقاً اي تصعيد عسكري ينطلق من ارضه، واستخدام الاراضي اللبنانية لتنفيذ عمليات تتسبب في زعزعة الاستقرار القائم». وكرّر «تأكيد التزام لبنان القرار الأممي 1701، والتنسيق الوطيد بين الجيش واليونيفيل».
وأبلغ ميقاتي إلى كروزيتو «أنّ كل القوى الفاعلة في الجنوب أبلغت الحكومة ادانتها هذه العملية وشجبها لأي تصعيد، لا سيما في هذا الظرف الدقيق». وتمنّى عليه «الضغط على اسرائيل لوقف اي عمليات تؤدي إلى مزيد من التوتر في الجنوب».
الثوابت الرسمية اللبنانية
وقالت مصادر ديبلوماسية لـ«الجمهورية»، انّ الاتصالات شدّدت على تفسير موقف لبنان الرسمي على مختلف المستويات السياسية والعسكرية والديبلوماسية، وإصراره على أهمية فهمه للظروف الاستثنائية التي تمرّ فيها المنطقة، وما انتهت إليه اجراءات الحكومة الاسرائيلية التي فجّرت الوضع في الداخل الفلسطيني، للتغطية على الآثار الخطيرة التي تسبب بها النزاع على مستوى المؤسسات الدستورية في اسرائيل. فبات اي تطور او اعتداء على فلسطينيي الداخل ودول الجوار الاسرائيلي، وارداً في اي لحظة، للخروج من المآزق الداخلية. كذلك شدّدت الاتصالات على تأكيد التزام لبنان مقتضيات القرارات الدولية، ولاسيما منها القرار 1701، وهو لن يوفّر فرصة للتعاون مع القوات الدولية لتنفيذ هذه القرارات.
ولذلك، اكّد الجانب اللبناني رفض الحكومة ان يكون لبنان أو جنوبه منصة تهديد على يد أي طرف، وترك التحقيقات الجارية مع «اليونيفيل» تأخذ مجراها حتى النهاية التي يطلبها دعاة السلام في المنطقة الجنوبية.
مروحة مشاورات
على انّ الاتصالات شملت مختلف الاطراف ولم تستثن احداً من المعنيين. وهي حملة ديبلوماسية تقاطعت مع مجموعة الاتصالات التي أجرتها قيادة قوات «اليونيفيل»، التي بقيت على تواصل عبر ضباط الارتباط بين الجانبين اللبناني والإسرائيلي، تزامناً مع لجنة التحقيق المشتركة التي شكّلتها «اليونيفيل» والجيش اللبناني، وأثمرت وضع اليد على مجموعة المنصات التي استُخدمت في القصف، وهي تقع عند مثلث قرى القليلة والمعلية وزبقين في قضاء صور في اتجاه الأراضي الفلسطينية المحتلة، وهي المنطقة التي اعتادت مجموعات مسلحة فلسطينية على استخدامها لسنوات عدة أكثر من مرة.
وجاء ذلك قبل ان تنطلق مجموعة قذائف اخرى بعد بداية الليل من سهل مرجعيون في اتجاه الجليل الأعلى ومستوطنة المطلة المواجهة لها. وترافق ذلك مع اطلاق الجيش الإسرائيلي قنابل مضيئة فوق المطلة، بالتزامن مع إطلاق صافرات الإنذار من حين لآخر، في ظلّ تحليق للطيران التجسّسي في سماء المنطقة.
الإنفجار لم يكن مفاجئاً
تزامناً، كشفت مراجع ديبلوماسية محلية واجنبية رفيعة المستوى لـ«الجمهورية»، انّ بعض المسؤولين اللبنانيين تبلّغوا قبل ايام عن احتمال ان تقوم مجموعات مسلحة بعمليات قصف من جنوب لبنان، معطوفة على الخوف من تطورات الوضع الداخلي في فلسطين المحتلة.
ولفتت المراجع إلى انّ المعلومات استندت إلى حاجة رئيس الحكومة الاسرائيلية إلى منفذ يُخرج حكومته من المستنقع الفلسطيني الداخلي في المواجهة المفتوحة في غزة والضفة الغربية، قبل ان تندلع المواجهة الأصعب في الحرم القدسي وما انتهت إليه المواجهات الحامية في المنطقة، وخصوصاً انّ اي عملية أبعد من الحدود الجغرافية الداخلية لاسرائيل والساحة السورية التي استهدفها نتنياهو بمجموعة من العمليات العسكرية شبه اليومية، والتي انتهت إلى مقتل اثنين من المستشارين الايرانيين وعدد من المسلحين والجنود من الجيش السوري عقب عملية «مجدو» التي ما زالت اسرائيل تبحث في مزيد من الإشارات حول تأكيد ما توافر لديها من معطيات وضعت العملية في يد مجموعات تديرها طهران.
إستيعاب المواجهة
وكان ميقاتي عرض مع وزير الخارجية عبدالله بوحبيب لنتائج الاتصالات التي اجراها المسؤولون اللبنانيون مع مراجع ديبلوماسية في الداخل والخارج بغية استيعاب الوضع الطارئ. وقالت وزارة الخارجية والمغتربين في بيان: «يؤكّد لبنان مجدداً على كامل احترامه والتزامه بقرار مجلس الامن الدولي 1701، وحرص لبنان على الهدوء والاستقرار في جنوب لبنان. ويدعو المجتمع الدولي للضغط على اسرائيل لوقف التصعيد. ويبدي لبنان استعداده للتعاون مع قوات حفظ السلام في جنوب لبنان واتخاذ الإجراءات المناسبة لعودة الهدوء والاستقرار، ويحذّر من نوايا اسرائيل التصعيدية التي تهدّد السلم والأمن الاقليميين والدوليين».
«لا نريد حرباً»
وإلى ذلك، قال وزير الثقافة محمد وسام المرتضى لـ«الجمهورية»: «نحن في لبنان لا نريد حرباً، لكن ممنوع التعدّي علينا. وإذا كان هناك من سيحمّلنا مسؤولية تسلّل مجموعة اطلقت الصواريخ في اتجاه العدو، فليسأل نفسه لماذا هذه الأحداث؟ أوليست وليدة العنف الخطير الذي تمارسه اسرائيل في حق الفلسطينيين… نحن لا ننبطح، والموقف الذي ادّعى انّه رسمي ينطق باسم لبنان، سيجعل العدو يسيء الفهم والتقدير. والكلام الذي يجب ان يسمعه عدونا هو انّه إذا حاول التطاول والاعتداء علينا سيرى تداعيات لا قدرة له على تحمّلها… وايّاك والتهور». واضاف: «انّ الخطر الاساسي على إسرائيل هو من جنوب لبنان، وعليها ان تضبط نفسها وتلملم الوضع الداخلي وتكف عن الظلم، فحالة التفلّت جنوباً هي انعكاس لكل واقع الدولة نتيجة الحصار الاقتصادي عليها، ولا يمكن أخذ ما حصل ذريعة للاعتداء علينا». ورأى «انّ المقاومة منضبطة وانضباطها هو فعل ذاتي منها. اما اذا كانت هناك جهات اخرى تلجأ إلى ردّات فعل فعليها معالجة هذا الامر بنفسها ومراجعة سياستها. فلبنان لا يريد الحرب لكنه ليس لقمة سائغة»…
الموقف الاسرائيلي
في غضون ذلك، ذكر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، عقب انتهاء جلسة مجلس الوزراء المصغر (الكابينت): «أننا سنضرب أعداءنا وسيدفعون ثمناً لعدوانهم»، مشيرًا إلى أنّه «ليس لدينا رغبة في تغيير الوضع الراهن للأماكن المقدسة، في القدس». وأوضح: «اننا ندعو إلى تهدئة التوترات وسنعمل بحزم ضد المتطرفين الذين يستخدمون العنف»، لافتًا إلى أنّ «الخلافات الداخلية لن تمنعنا من مواجهة أعدائنا، على كل الجبهات».
وتحدثت القناة 14 الإسرائيلية، عن «تعزيزات عسكرية في الشمال عند الحدود مع لبنان، بما فيها القبة الحديدية، ولا تعليمات باستثناء فتح الملاجئ»، وذكرت انّ نتنياهو وكبار المسؤولين في الدفاع والأجهزة الأمنية قرّروا طبيعة الردّ على إطلاق الصواريخ من لبنان. كذلك قرّروا موقع الردّ.
لكن هيئة البث الإسرائيلية قالت إنّ «نتنياهو لم يوجّه في خطابه أي اتهام لجهة في قضية إطلاق الصواريخ من لبنان»، موضحة أنّ «هذا الأمر لافت جداً». وأفادت أنّ «السفارة الأميركية تطلب من موظفيها الابتعاد عن الحدود الشمالية، بسبب الأوضاع الأمنية».
وإلى ذلك، أعلنت قيادة قوات «اليونيفيل» العاملة في الجنوب في بيان، أنّ جنودها يواصلون أداء واجباتهم، و«يبذلون كل ما في وسعهم خلال هذا اليوم المتمثل بالوضع المتفجّر والخطر. ووفقاً للبروتوكول المتبع، تمّ اصدار أوامر إلى الموظفين المدنيين والعسكريين باللجوء الى الملاجئ داخل قواعدهم». وشدّدت على «أننا نواصل مراقبة الوضع ونقوم باستخدام كل آليات التنسيق والاتصال لدينا للتوصل إلى حل سريع وسلمي».
وقال المتحدّث باسم الجيش الاسرائيلي الكولونيل ريتشارد هيشت للصحافيين: «نعلم علم اليقين بأنّ هذه نيران فلسطينية. قد يكون من أطلقها «حماس»، أو «الجهاد الإسلامي». ما زلنا نحاول التوصّل إلى نتيجة نهائية في شأن هذه النقطة، لكنّه لم يكن «حزب الله» اللبناني. وأضاف: «ننطلق من مبدأ أنّ «حزب الله» كان على الأرجح يعلم بأمر هذا القصف، وبأنّ لبنان يتحمّل قسماً من المسؤولية» عن إطلاق هذه الصواريخ. وتابع: «نحن نحقّق أيضاً في تورّط إيراني محتمل» في هذا الهجوم الصاروخي الذي أوقع جريحاً وتسبّب بأضرار مادّية.
هنية والفصائل
وقد تزامن اطلاق الصواريخ مع وجود رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» إسماعيل هنية في لبنان، حيث اكّد أنّ الفصائل الفلسطينية لن تقف «مكتوفة الأيدي» إزاء «العدوان» الإسرائيلي على المسجد الأقصى. وقال هنية في بيان عقب لقائه الأمناء العامين لفصائل المقاومة الفلسطينية في بيروت: «نحمّل حكومة الاحتلال المسؤولية الكاملة عمّا يجري من عدوان وحشي على المسجد الأقصى المبارك وعلى المصلين والمعتكفين فيه». وأضاف: «نؤكّد أنّ شعبنا الفلسطيني وفصائل المقاومة لن يقفوا مكتوفي الأيدي أمام هذا العدوان الغاشم».
ودعا هنية الذي كان وصل إلى بيروت امس الاول، في زيارة تأتي في توقيت ذي دلالات وتستمر لأيام عدة، «فصائل المقاومة الفلسطينية كافة إلى توحيد صفوفها وتصعيد مقاومتها في مواجهة الاحتلال الصهيوني».
مواقف دولية
ولاقى اطلاق الصواريخ ردود فعل دولية. فاعتبر البيت الأبيض، أنّ «من يستخدم أراضي لبنان قاعدة إطلاق للصواريخ على إسرائيل، يعرّض الشعب اللبناني للخطر»، لافتاً إلى أنّ «الرئيس الأميركي جو بايدن مطلع على الأحداث. والسفير الأميركي ومسؤولون بارزون في الإدارة على تواصل مع إسرائيل». وشدّد على أنّ «الولايات المتحدة ملتزمة بأمن إسرائيل، ونعترف بحقها في حماية مواطنيها وأراضيها من أي عدوان».
بدورها، دانت وزارة الخارجية الأميركية، «إطلاق الصواريخ من لبنان وغزة ضد إسرائيل»، مشدّدة على أنّ «موقفنا واضح بأنّ لدى إسرائيل مخاوف أمنية مشروعة، ولها الحق في الدفاع عن نفسها».
وندّد المتحدث باسم الامين العام للامم المتحدة ستيفان دوجاريك، بـ»إطلاق صواريخ من لبنان على اسرائيل»، داعياً «جميع الاطراف إلى أكبر مقدار من ضبط النفس»، مشدّداً على ضرورة «تجنّب أي فعل احادي الجانب قد يؤدي الى تصعيد جديد للوضع».
ودان مساعد المتحدث باسم وزارة الخارجية الفرنسية فرنسوا ديلما «إطلاق صواريخ في شكل عشوائي، استهدفت الأراضي الإسرائيلية إنطلاقاً من غزة وجنوب لبنان»، وقال: «في هذه الفترة من الأعياد الدينية، تدعو فرنسا جميع الأطراف الى أقصى قدر من ضبط النفس وتجنّب أيّ عمل من شأنه تأجيج تصاعد العنف».
وأشار وزير خارجية الأردن أيمن الصفدي، في حديث لـ«سي إن إن»، إلى «اننا في مرحلة خطيرة، وما يحدث على الحدود اللبنانية ردّ فعل لما شهدناه في الأقصى».