كتبت صحيفة الجمهورية تقول: الوقائع المتدحرجة على المشهد اللبناني باردة مناخيًا، وموترة نفسيًا؛ الزلزال الذي ضرب المنطقة ونكب سوريا وتركيا، وروّع لبنان خوفًا وقلقًا، طغى على كل ما عداه. اللبنانيون وهم يرون الآثار المدمّرة التي خلّفها في الدولتين المنكوبتين، مستنفرون بكلّ حواسهم تحسبًا لارتدادات الزلزال، وأسئلة كثيرة تؤرقهم، وهم يسمعون مجموعات البوم التي انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي وبعض القنوات والشاشات، وهي تنعق بالخراب وتنسج روايات مرعبة وسيناريوهات مدمّرة وعوامل طبيعية مهولة تلوح في الأفق اللبناني.
اما على المقلب السياسي، فنهاية الاسبوع فارغة، وجفاف كامل يطوّق الملف الرئاسي، ولا تلوح في الأفق أي مؤشرات جدّية وحتى غير جدّية، عن تبدّل ما في هذا المناخ، من شأنه ان يرطّب هذا الجفاف، ويضيء بصيص نور في النفق الرئاسي، وتنقشع معه رؤية مخرج طوارئ نحو كسر حلقة التعطيل والإفراج عن رئيس الجمهورية المعتقل في دهاليز الحسابات والمكايدات.
وإذا كان لبنان بوضعه المنكوب إلى آخر درجات الاهتراء قد بادر إلى مدّ يد العون للمنكوبين في سوريا وتركيا ضمن إمكانياته المحدودة، وهي خطوة انسانية مقدّرة، الّا انّه بوضعه المزلزل على كل المستويات، بات في أمسّ الحاجة إلى استفاقة شاملة من سبات الإستخفاف والتجاهل والإنكار، تحرّك الشعور بالمسؤولية والحسّ الانساني لدى أطراف الإنقسام السياسي، لوقف المسار الذي يهوي بلبنان بوتيرة متسارعة نحو الهلاك. ولكن، لا حياة لمن تنادي، في واقع سياسي يُدفع عمداً إلى الأسوأ، تقيّده مكوناته المتعادية بأصفاد الغرائز والنزوات والحسابات والمغامرات، وتخضعه لإرادة الصراع والاشتباك، ولسادية سياسية معادية للنور، تفتك بكل فرصة انفراج من شأنها أن تنير نقطة الضوء التي يمثلها انتخاب رئيس الجمهورية، في عتمة الأزمة.
الحقد الأعمى
هذه الصورة لا تبشّر بخير قريب او بعيد على الاطلاق، ولعلّ اصدق توصيف للمشهد اللبناني، جاء على لسان مسؤول كبير بقوله لـ«الجمهورية»: «كارثة لبنان الكبرى تتجلّى في الحقد الأعمى الذي يراقص لبنان على حافة الضياع. الحقد لا يبني بلداً، وعندما يندمج الحقد مع السياسة، قل على لبنان السلام».
وإذ أعرب المسؤول عينه عن تشاؤم بالغ حيال مستقبل البلد، توجّه إلى المكونات السياسية على ضفتي التعطيل وقال: «إنّ اكبر الخسارات، هي ان تخسر بالحقد نفسك، فكيف إذا خسرت وطنك وهدمت ملاذك الوحيد، وقتلت الأمل لدى شعبك. الأزمة بكل متفرعاتها أعادت لبنان 50 سنة إلى الوراء، والمسار السياسي القائم يمعن في نسف البقية الباقية منه، ويدفعه إلى الوراء اكثر. ومع ذلك لم تنعدم الفرصة، في أيدينا كلبنانيين ان نحقق المعجزة اللبنانية، ونوقف هذا المسار، ونتلاقى في الفرصة المتاحة أمامنا للتوافق على انتخاب رئيس للجمهورية».
حراك متجدّد
ولفت المسؤول الكبير إلى انّ الوقائع الداخلية والخارجية المرتبطة بالملف الرئاسي، تؤكّد حقيقة ثابتة بأنّ التوافق بين اللبنانيين لا بدّ ولا مفرّ منه، ومهما طال الوقت، سيصلون في نهاية الأمر إلى حتمية التوافق. ولكن في حالتنا الراهنة، فالوقت كلفته باهظة جداً على البلد، وكلما عجّلنا خففنا من حجم الأعباء والكلفة الغالية التي سندفعها». كاشفاً في هذا السياق عن حراك متجدّد سينطلق في وقت قريب، والدور الأساس فيه للرئيس نبيه بري. ومرحّباً في الوقت ذاته بأي محاولة حوارية توفيقية لكسر جدار التعطيل، في اشارة إلى التحرّك الاخير لرئيس الحزب «التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط، وكذلك إلى ما قد تقوم به بكركي من جهد لعقد اجتماع مسيحي، وقال: «المهم هو ان نصل إلى نتيجة في نهاية المطاف، ولا نعلّق أي حوار او اجتماع على حبل طويل من الطروحات والاشتراطات المسبقة».
ad
ورداً على سؤال قال المسؤول الكبير: «اصطفافات الداخل كانت نتيجتها هي التي نعيشها حالياً بالتعطيل الكامل للحياة السياسية، ولانتخاب رئيس للجمهورية، والبعض راهن على تدخّل من الخارج، وها هو الجواب يأتي سريعاً من اجتماع باريس، الذي يصح فيه القول انّ الضجيج وحفلات الطبل والزمر التي سبقت العرس، كانت اكبر من العرس نفسه، ونتيجته تبعاً للتكتم الذي يحيطه، هي صفر مكعب. أليست هذه النتيجة كافية لأن ندرك انّ الخارج، كل الخارج، قال على مختلف مستوياته وبكل لغاته، انّه لن يتدخّل في الملف الرئاسي، ولن ينوب عن اللبنانيين في تحمّل هذه المسؤولية واختيار رئيس الجمهورية؟».
وفي سياق متصل بالاجتماع الباريسي الذي عُقد الاثنين الماضي بين ممثلين عن فرنسا والولايات المتحدة الاميركية والسعودية و قطر مصر، فإنّه لا يزال في عالم المجهول، حيث لم يرشح عنه شيء حتى الآن، وليس في الأفق ما يؤكّد حتى الآن انّ بياناً سيصدر لاحقاً عن وزارة الخارجية الفرنسية. واللافت في هذا السياق، انّ المستويات السياسية على اختلافها ليست في اجواء ما دار في الاجتماع وما تقرّر فيه. وقالت مصادر رسمية مسؤولة لـ«الجمهورية»: «كما سمعنا في الإعلام عن تحضيرات لعقد اجتماع في باريس حول لبنان، سمعنا ايضاً انّه انعقد، واكثر من ذلك لا نملك أي معطيات».
وسألت المصادر عن مغزى الصمت المطبق حيال هذا الاجتماع، وقالت: «هذا الصمت مريب، وما زلنا ننتظر. نحن نقاربه من فرضيتين متناقضتين، الاولى من زاوية انّ هذا الصمت قد يكون مؤشراً إلى قرارات نوعية خلص اليها هذا الاجتماع، ولكننا لم نلمس ما يؤكّد ذلك، لا تلميحاً ولا تصريحاً. واما الزاوية الثانية، فنلاحظ انّ هذا الاجتماع لم يحظ بقدر مهم من المتابعة الإعلامية، وبمعنى أوضح كان مهملاً اعلامياً وتمّ التعاطي معه كاجتماع مرّ مرور الكلام. وفي الوقت نفسه فإنّ هذا الصمت، وعدم صدور بيان، يؤشران إلى فشل، وتباين بين المجتمعين في النظرة إلى الملف اللبناني. ومعنى ذلك، انّ ملف الرئاسة في لبنان في موقعه الذي لم يتزحزح لا قبل الاجتماع ولا مع انعقاد الاجتماع ولا بعد الاجتماع، بأنّه خارج دائرة الاهتمامات والاولويات الدولية. والخيبة الكبرى أصابت فقط من راهن على هذا الاجتماع، وكبّر حجر التوقعات منه».
على شفير الإفلاس
هذه الصورة السياسية القلقة، تزيدها قلقاً ورعباً، صورة اكثر سواداً، تُقرأ في عودة مستويات اقتصادية ومالية مختلفة إلى رفع الصوت مجدداً، وإطلاق جرس إنذار مما سمّتها «احتمالات دراماتيكة وانهيارات اجتماعية ومعيشية ومنزلقات شديدة الخطورة وفلتان لا حدود له، ترتسم في أفق الأزمة الاقتصادية والمالية». وقالت مصادر اقتصادية مسؤولة لـ»الجمهورية»: «العلاجات بالمسكنات لا تنفع ابداً مع أزمة مستعصية، وحتى المسكنات باتت مفقودة. هي صورة مرّة نضعها برسم السياسيين، الأرقام مخيفة، الانهيار مريع، وما نشهده في هذه الايام قد لا يرقى إلى واحد في المئة من الكارثة الكبرى التي يسير البلد في اتجاهها. صار المطلوب وبإلحاح علاجات جراحية، بدءاً بانتفاضة سياسية تصوّب المسار الداخلي، بدءًا بانتخاب رئيس للجمهورية، وتشكيل حكومة جدّية تنطلق في رحلة العلاج الطويلة، فالوضع مميت وعلى شفير الافلاس الحقيقي».
إشتباك في الأفق
وإذا كانت التناقضات الداخلية قد عطّلت المسار الرئاسي وممترسة خلف دشم الاشتباك بين جبهات التعطيل، فإنّ المسار التشريعي في مجلس النواب يسلك بدوره طريقاً شائكاً، في ظلّ الاصوات المعارضة التي ترى أن لا دور للمجلس النيابي حالياً سوى انتخاب رئيس الجمهورية. وعلى هذا الأساس بنت بعض التوجّهات النيابية خياراتها بمقاطعة أي جلسة يعقدها المجلس خارج الإطار الانتخابي سواء اكانت تشريعية او غير ذلك.
على انّ هذا الامر، يُقابل من قِبل رئيس المجلس نبيه بري بالتأكيد على أن لا قوة تستطيع ان تعطّل الدور التشريعي للمجلس، والدستور واضح لهذه الناحية خلافاً لبعض التفسيرات السطحية للنص الدستوري. وتأكيداً على دور المجلس بالتشريع، وجّه رئيس المجلس دعوة لاجتماع هيئة مكتب مجلس النواب الاثنين المقبل، تمهيداً للدعوة إلى جلسة تشريعية، تتناول مجموعة من البنود الملحّة والأساسية، وفي مقدّمها المشروع المتعلق بالكابيتال كونترول.
وبمعزل عمّا إذا كان اجتماع هيئة مكتب المجلس سيفضي إلى تحديد موعد لعقد جلسة تشريعية، فإنّ اجواء المعارضة تشي باشتباك وشيك على «حلبة التشريع»، ينتهي بمقاطعة أي جلسة تشريعية، واعتبارها مخالفة للدستور، كون المجلس هيئة انتخابية لا تشريعية. وفي المقابل، لا توافق مصادر مجلسية مسؤولة على هذا المنطق، وتقول لـ»الجمهورية»: «انّه يندرج في السياق الاستعراضي، والجهل الدستوري، ولا يعدو اكثر من محاولة ابتزاز يُراد منها شلّ مجلس النواب وتعميم التعطيل».
وكان الرئيس بري قد التقى امس في مقرّ الرئاسة الثانية في عين التينة نائب وزير الخارجية الايراني كبير المفاوضين الايرانيين في الملف النووي علي باقري كني، الذي قال بعد اللقاء: «انّ مستقبل لبنان ينبغي أن يُصنع بإرادة الشعب اللبناني الشقيق الحر». فيما اعلن وفد «حزب الله» برئاسة السيد ابراهيم امين السيد، الذي زار بطريركية الأرمن الكاثوليك في الاشرفية والتقى البطريرك ميناسيان. «أنّ الخيار الوحيد أمام اللبنانيين هو أن يجلسوا ويتحاوروا لإنجاز الاستحقاق الرئاسي».
لا يصبر طويلاً
في هذه الاجواء، اكّدت مصادر وزارية لـ«الجمهورية»، انّ إدارة الدولة بحكومة تصريف الاعمال إلى ما شاء الله، تنعدم فيها اي فرصة جدّية للعلاج، وبالتالي لا يمكن القبول باستمرار الوضع على ما هو عليه. فالحكومة تتحمّل مسؤولياتها بالحدود الممكنة والمتاحة لها، لتوفير شيء من الإنعاش وتقديم الاولويات والضرورات، ولكنها تبقى قاصرة مع الأزمة المتفاقمة على كل الصعد. الرئيس نجيب ميقاتي يرى خطراً كبيراً في الأفق، واكّد انّ من الضروري والملحّ كسر التعطيل القائم وانتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة تتفرغّ لمعالجة الأزمة، وهذا ما يجب ان يحصل على وجه السرعة.
وخلصت المصادر الوزارية إلى القول: «تصريف الاعمال مع أزمة خطيرة، واجب وضروري لإبقاء الهيكل قائماً، وفي هذا الوضع، قد يصبر المعنيون بتصريف الاعمال لشهر او شهرين او ثلاثة في أحسّ الحالات، ولكن ليس الى آجال طويلة مفتوحة. اما وأنّ الأزمة صارت تهدّد الكيان اللبناني برمته، فأولى الاولويات المسارعة إلى تحصين البنية التحتية للبلد بانتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة، فكلما طال الامر زادت الإرباكات، وضعفت القدرة على الصمود والصبر والتحمّل، وبكلام اوضح، قد لا يبقى مكان للصبر».