عندما يخضع البلد لمكوّنات تعاني انتفاخاً سياسياً وهمياً يُعمي البصر والبصيرة، وتعتقد انها تحتكم على صك ملكية بالبلد وتتصرف به على هواها، ليس مستغرباً ان يهتز البلد أكثر فأكثر، وينحى الى مزيد من الانزياح، ويتخلخل موقعه على خريطة الدول. وليس مستغرباً ايضاً أن يصاب بالتهابات حادة في كل مفاصله، لا تنفع معها المسكنات ولا المضادات الحيوية، بل قد تتطلّب جراحات عاجلة قبل أن تستفحل ويصعب احتواؤها واللحاق بتداعياتها.
وَضعُ لبنان بات على هذه الصورة الآيلة للتبدل في أي لحظة، فالانكشاف كامل وشامل، أجهَزَ على ما تبقى من رصيد استمراره وبقائه على قيد الحياة، والمسار الداخلي يهوي نزولاً أكثر فأكثر، وليس في الافق ما يبشّر ولو بانعطافة تحرفه صعوداً او تبطّىء قوة الدفع التي تجذبه الى التهلكة، او يؤشّر الى نوايا جدية لصياغة فرصة جدية لاسترداد البلد، وإعادة تركيز عجلاته السياسية والرئاسية والحكومية على سكة الانتظام والانفراج.
كان يمكن لهذه الفرصة ان تستثمر في الاستحقاق الرئاسي، الّا ان دود الخلّ السياسي، أعدمَ حتى التفكير بأي فرصة جدية، ومَوّه نفسه بكذبة الحرص على البلد وأهله، وقيّد انتخاب رئيس جديد للجمهوريّة بلعبة تعطيل وتضليل وتدجيل مفضوحة ثبتت الواقع اللبناني فوق عبوة موقوتة، مفخخة سياسيا وطائفيا ومذهبيا واقتصاديا وماليا واجتماعيا ومعيشيا، تُنذر كل المؤشرات بأنها باتت قاب قوسين او أدنى من لحظة الانفجار الشامل وفتح ابواب “الجحيم الاكبر” على مصاريعها.
وعلى الرغم من هذه الصورة الاكثر من سوداوية، لا تبدو اطراف التعطيل والتضليل والتدجيل مستعدة للنظر ملياً وبمسؤولية الى منحدرات الازمة واحتضار الواقع اللبناني، او لإعادة النظر بسلوكيّاتها التي يتّفق القاصي والداني بأنّها عمّقت الازمة ودفّعت لبنان واللبنانيين لسنين طويلة، أثماناً مرهقة ومفجعة. بل على العكس من ذلك، إنّ الوقائع المتدحرجة على المشهد السياسي العام، والرئاسي على وجه الخصوص، تُحبط مسبقاً اي رهان على ان ينزل الوحي على أطراف تؤكد انقساماتها وتناقضاتها بأنها ميؤوس منها، حيث انها طبّعت مع الازمة، وحسمت خيارها بالتذخير اليومي للعبوة الموقوتة، والامعان في إرقاص البلد وأهله على حافة المصائب والمصاعب والكوارث والمرارات، وبَنت خط صدّ سميكاً امام اي مسعى حواري او فرصة تفاهم او توافق، تكسر الانسداد القائم، وتقود الملف الرئاسي الى واحة الانتخاب واستيلاد رئيس للجمهورية كخطوة اولى في مشوار الانقاذ الطويل.
هذا العرض تؤكّده حقيقة ثابتة تتردّد بقوّة في المجالس والصالونات السياسية، ومفادها أنّ الملف الرئاسي في المجهول، واحتمالات البتّ به معدومة نهائياً.
وفي هذا السياق، تقول مصادر مسؤولة لـ”الجمهورية”: “ان الوضع اكثر من تشاؤمي، فالملف الرئاسي ليس في المربّع الاول كما يحلو للبعض ان يحدّد موقعه، بل انّ التناقضات السياسية وصراع الاجندات الداخلية والخارجية والرهان على متغيرات داخلية او تدخلات خارجية، دفعت به الى مربّع ما تحت الصفر، وعكست نفسها في مجلس النواب وشَلّت قدرته على انتخاب رئيس للجمهورية، وترجم ذلك بأحد عشر فشلاً متتالياً”.
وتذهب المصادر الى ما هو ابعد من التشاؤم والسوداوية بقولها: “انّ امام المجلس النيابي سدّاً مانعاً لانتخاب رئيس للجمهورية، حيث لا قدرة لطرف دون آخر ان يبلور الاكثرية النيابية الميسّرة لهذا الانتخاب. وبالتالي لا سبيل لكسر هذا السدّ سوى بحوار جدي ومسؤول يقود الى توافق على رئيس، ولكن ثبت مع التناقضات القائمة بما لا يرقى اليه الشك أنّ هذا التوافق مرفوض ومعدوم. وتبعاً لذلك، طالما ان هذه التناقضات ليست في وارد ان تسلك مسار التوافق والتفاهم، وطالما ان الشخصانية والكيدية والنزعة الانتقامية ستبقى متحكّمة بها، فمن الآن نقول: يحلم من يعتقد انّ في الامكان انتخاب رئيس الجمهورية قبل انتهاء ولاية مجلس النواب، يعني ذلك انّنا امام سنوات من الفراغ في رئاسة الجمهورية، ولبنان اليوم ينازع، فهل سيبقى لنا وطن ودولة حتى ذلك الحين؟!”.
**