ان من الصعب الحديث، قبل أسبوعين أو أقل، عن التوترات الكبيرة الكامنة في الشارع المسيحي. كان الكلام سيبدو كأنه تحريض أو مقدمة لأحداث ما. لكن الوقائع التي تلت الانتخابات النيابية الأخيرة، وطريقة التعامل مع ملف الحكومة التي لم تشكّل، والاستنفار الذي رافق مغادرة الرئيس ميشال عون القصر الجمهوري، كل ذلك، كان يشي، إلى جانب بعض المعطيات، بأن هناك من لا يدرك حقيقة أن «الساحة المسيحية» هي الأكثر عرضة لتكون ساحة لتصفية حسابات سياسية تتجاوز مصالح ومطالب القوى المسيحية نفسها.
قبل أقل بقليل من ثماني سنوات، أبلغ حزب الله الأطراف المحلية والخارجية أنه سيدعم انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، مستنداً إلى القوة التمثيلية للرجل، وإلى المعطيات الداخلية والإقليمية التي تسمح بوصوله. من يومها، انطلقت الحملة المنظمة على العماد عون وفريقه، وهي حملة شارك فيها كل من يعتبرون اليوم في موقع الخصومة مع التيار الوطني الحر داخلياً، وانضم إليها لاعبون من الخارج ممن كانوا يعتقدون أن وصول عون إلى القصر الجمهوري ودخوله لعبة السلطة سيبعده عن حزب الله.
عملياً، قام تحالف غير مسبوق، شمل كل خصوم الجنرال على الساحة المسيحية. وحتى من استكانوا في انتخابات العام 2018، تصرفوا بانتهازية كانت معروفة، لكن الجنرال تعامل معها على أنها قد تكون تعبيراً عن رغبة البعض في الخروج من عقلية الماضي. وخلال الفترة التي امتدت حتى اندلاع أحداث 17 تشرين 2019، كانت الماكينة قد أجهزت على كل شيء. صار عون، ومعه رئيس التيار جبران باسيل، يمثلان وجه الشيطان في لبنان. لم يبق أحد من كل خصومهما المسيحيين، من القوات والكتائب إلى الأحرار وبقية 14 آذار، إلى الأطر التي استجدّت باسم مجموعات مدنية أو حتى نافذين داخل الكنيسة وبعض رجال الأعمال وشخصيات تقليدية، كل هؤلاء تجمعوا في معركة واحدة ضد عون وباسيل. رغم كل التباينات القائمة بين هؤلاء، تلاقوا جميعاً عند فكرة واحدة اسمها: شيطنة التيار ورموزه وإعلان الحرم عليه بسبب علاقته بحزب الله. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، إذ إن حلفاء حزب الله المسيحيين، من تيار المردة إلى شخصيات مستقلة في الشمال والبقاع وبيروت، انضموا هم أيضاً إلى الجبهة، ولو أنهم قاتلوا التيار لأسباب لا تتصل بعلاقته مع المقاومة، لكنهم كانوا يتصرفون على أساس أن التيار يمارس سياسة الإقصاء التي تشملهم ولا تقتصر على الخصوم فقط.
وفي الجبهة المقابلة، لم يكن هناك من يحتاج إلى شحذ الهمم في معركة قاسية ضد عون وباسيل. إذ إن تحالف حركة أمل – الحزب التقدمي الاشتراكي – تيار المستقبل، لم يكن ينقصه أي حافزية للانقضاض على عون وفريقه. وهؤلاء تصرفوا على أنهم أرغموا على التعامل بإيجابية أو حيادية مع انتخاب عون رئيساً، فيما هم، في حقيقة الأمر، لم يرغبوا يوماً بأن يكون لديهم شريك في السلطة مثل ميشال عون. ولا يعود ذلك فقط إلى الخلاف الذي كان قائماً بينهم وبين الجنرال في آخر ثمانينيات القرن الماضي، بل لأنهم أصلاً من الفريق الذي عمل بالنسخة السورية من اتفاق الطائف التي قامت على عدم السماح لرئيس مسيحي قوي بالوصول إلى قصر بعبدا. وهم شعروا، بين العامين 2005 و 2016، بأن التيار الوطني الحر، بدعم مباشر من حزب الله، كان يستعيد المواقع التي استولى عليها «إسلاميو الطائف» من المسيحيين بين العامين 1990 و2005. كما أن الجميع كان يعرف أن عون يعتبر أن كل الجبهة المقابلة، التي تضم إسلاميي الطائف ومسيحيي سوريا، يتحمّلون مسؤولية الانهيار والتفكك الذي يعيشه لبنان، وكان برنامجه للإصلاح، يعتمد على مواجهة مباشرة وقاسية معهم، لكنه عدّل كثيراً في تصوراته، وحتى في آلياته. ورغم أنه بادر إلى التعايش والتعاون مع فريق من هؤلاء، بل إن التيار الوطني نفسه سارع إلى حجز مقاعد له في الإدارة العامة، إلا أن كل ذلك لم يشفع له. واستمرت الحملة واشتدت بعد انضمام مباشر للولايات المتحدة والسعودية ودول أخرى، ربطاً بعلاقة عون وباسيل بحزب الله من جهة، وباستعداد عون وباسيل للذهاب نحو علاقات مختلفة مع الشرق من جهة ثانية.
عملياً، لم تتوقف حملة الشيطنة ضد التيار وعون وباسيل، لكنها أخذت بعداً مختلفاً بعد الانتخابات النيابية، لأن ملايين الدولارات، والدعاية اليومية على مختلف الصعد، لم تدفع التيار إلى موقع الخاسر نيابياً. ورغم أن خصومه حصدوا أصواتاً ومقاعد أكثر في الوسط المسيحي، إلا أن ذلك لم يكن كافياً لجعل التيار في عزلة تمنع عليه المشاركة في إدارة أي حكومة جديدة. لذلك، كان القرار بأن يكون الأداء في الأشهر الأخيرة من ولاية عون مشابهاً لما حصل مع العماد إميل لحود، لجهة عزله وترك الأمور بيد مجلس الوزراء. لكن الحكومة التي يتمثل فيها التيار الوطني، وفيها حليف قوي له هو حزب الله، لم يكن بالإمكان إدارتها بطريقة مختلفة. وجاء ملف ترسيم الحدود البحرية مع العدو ليظهر للأطراف الخارجية قبل الداخلية أن السير نحو تفاهمات قابلة للتنفيذ، إنما يتم من خلال دور مركزي للتيار الوطني الحر، ولباسيل شخصياً، ووصل الأمر بالأميركيين إلى إصدار قرار رئاسي بمنح الوسيط عاموس هوكشتين استثناء لعقد لقاءات مباشرة مع باسيل برغم إدراجه على لوائح العقوبات. إذ إن اجتماعات باسيل – هوكشتين في لبنان والخليج وأوروبا كانت ضرورية لتسريع عقد التفاهم، وكان الأميركيون يعرفون أن باسيل هو رجل ثقة أول عند المقاومة بوصفها القادرة على تعطيل أي تفاهم يخص الصراع مع العدو. لذلك حاول رئيس الحكومة المكلف مرات كثيرة أخذ الأمور في ملفات كثيرة صوب مكان لا يكون فيه لعون أو باسيل أي تأثير، وصولاً إلى الامتناع عن تشكيل حكومة جديدة بدعم من حلفائه.
على أن معركة عزل التيار لم تعد ممكنة بالوسائل التي اعتمدت سابقاً. ما يجري اليوم هو المرحلة الأكثر خطورة، والتي تعكس حادثة «أم تي في» أحد أوجهها. لأن المقصود بما حصل، الانتقال من مرحلة تصنيف التيار كحزب فاشل مسؤول عن الفوضى والخراب، إلى حزب يسعى لتشكيل ميليشيات تشكل خطراً على الأمن الوطني. ويجري العمل، بقوة، لتوريط الجيش اللبناني في هذه المهمة انطلاقاً من الخصومة القائمة اليوم بين التيار وبين قائد الجيش العماد جوزيف عون حول انتخابات رئاسة الجمهورية. وفي حال توسع العمل القمعي ضد التيار بحجج متنوعة، سنكون أمام عملية تطابق مع ما تعرض له التيار الوطني الحر عندما نفي العماد عون إلى باريس، وصار حزباً سرياً يتعرض ناشطوه للملاحقة والاعتقال والإقصاء.
وبمعزل عن خطة التيار لمواجهة هذا المخطط، يمكن لطرف آخر، مثل بكركي، أن يبادر سريعاً إلى خطوات تمنع انفجاراً لن تقتصر ساحاته على المنصات الإعلامية، الواقعية منها والافتراضية، بل سينتقل حكماً إلى الجامعات والمدارس والأحياء والقرى، وسيكون عنوان الكارثة التي سيدفع المسيحيون كافة ثمنها.
المصدر:”الاخبار_ ابراهيم الامين”
**