لا تختلف سياقات الأحداث المتصاعدة في الضفة الغربية المحتلّة خلال الأشهر الماضية، عمّا كان عليه الحال في الانتفاضتَين الماضيتَين. إذ تُجمع مراكز الدراسات الأمنية والسياسية في إسرائيل، على أن المشكلة المتقادمة ليست أمنية بقدْر ما هي سياسية. الحال اليوم هو ذاته الذي تَرافق مع إرهاصات انطلاق الانتفاضة عام 2000: «إسرائيل لا تريد أن تعطي الفلسطينيين أيّ شيء، لا دولة، ولا حتى مفاوضات شكلية تغطّي بها مشروعها الاستيطاني التوسّعي»، يقول الباحث السياسي، أحمد المدهون، مضيفاً في حديثه إلى «الأخبار»، أن «المقدّمات نفسها تقود إلى النتائج عينها، والواقع اليوم، وإنْ اختلف في التكتيك عن الانتفاضتَين السابقتَين، فهو في المحصّلة واحد: الضفة المحتلّة التي تريد إسرائيل التهامها من دون أيّ ضوابط، تضع نقطة على نهاية سطر طويل من الإلهاء، بدأ منذ عام 2007، ويُراد له أن يستمرّ بلا سقف زمني».
“الاخبار”: عقدان من الوعي: الضفة تعيد إنتاج انتفاضتها
يصف المحلّلون السياسيون والأمنيون الإسرائيليون، الأحداث المتصاعدة في الضفة بأنها «حالة جديدة» لا تُشبه الانتفاضتَين السابقتَين اللتَين اندلعتا في عامَي 1987 و2000. ويشيرون إلى أن «ما نشهده الآن هو وجود جيوب لمسلّحين فلسطينيين خاصة في نابلس وجنين (شمالي الضفة)، يشتبكون كلّ ليلة تقريباً مع الجيش الإسرائيلي أو يطلقون النار على أهداف إسرائيلية (…) في كلّ مرّة تدْخل فيها القوّات الإسرائيلية إلى مدن أو مخيّمات في جنين ونابلس تحديداً، لتنفيذ عمليات اعتقال أو هدم منازل منفّذي عمليات، يَحدث اشتباك مسلّح وإطلاق نار وهناك جرحى وقتلى». وفي تعليقه على ذلك، يرى مصدر ميداني من المقاومة في مخيم جنين، في حديثه إلى «الأخبار»، في ما جرى منذ عملية «نفق الحرية» في أيلول 2021، انطلاقة فعلية لـ«قطار المقاومة»، معتبراً أن «ما يحدث اليوم ليس حالة طارئة ومؤقّتة، إنّما بداية لفعل مستدام، من شأنه أن يعيد الصراع مع المحتلّ إلى جادّة الصواب، والصواب هنا، الاستمرار في المشاغلة والإنهاك، حيث الصمت والهدوء هو أفضل الأجواء التي سعت إسرائيل بعد الانتفاضة الثانية للمحافظة عليها بهدف حماية تمدّد مشروعها الاستيطاني، ونقيض ذلك هو منْع استقرار العدو، والعودة بمشاريعه وحساباته إلى نقطة الصفر».
بدوره، يرى المحلّل السياسي، أيمن الرفاتي، أن «المعركة الحقيقية تدور في الضفة المحتلّة وعليها، حيث تَعتقد إسرائيل أن التهديد الأكبر لمشروع دولتها هو خاصرتها الرخوة التي تحوي أكبر خزّان بشري فلسطيني»، لافتاً في حديثه إلى «الأخبار»، إلى أن «كلّ التهديدات المحيطة بالاحتلال، يمكن تأجيلها، أو اجتراح حلول لمعالجتها على نحو استراتيجي، لكن شراء الهدوء في ميدانٍ معقّدٍ مِثل الضفة هو التحدّي الذي لا يمكن للمؤسّسة الأمنية الإسرائيلية أن تُغمض عينها عنه للحظة». لكن، هل بالمقدور القول إن الضفة الغربية تعيد إنتاج الانتفاضة؟ يجيب الرفاتي بأنه «خلال الأشهر الأولى من انطلاق كتائب المقاومة، ثمّ تَمدّدها، ثمّ انخراط مختلف المكوّنات الفصائلية والشعبية فيها، كانت الإجابة تَحتمل عدّة فرضيّات، لكنّنا اليوم، نجزم أن ما يحدث أكبر من انتفاضة شعبية يمكن تقويضها. العناصر الفاعلة في هذه الحالة هجينة وعابرة للأحزاب، وإنْ كانت الأخيرة هي المحرّك الأساس فيها. وطبيعة الفعل القائمة على الاستنهاض واللامركزية والمزاوجة بين التنظيم والعشوائية، تبشّر بعمل أكبر ممّا تناولتْه التقديرات الإسرائيلية، وأُطلقت حملة “كاسر الأمواج” للقضاء عليه، وفشلت حتى اليوم في تنفيذ أيّ اختراق» إزاءه.
وإذا كان قتْل الأطفال محمد الدرة وإيمان حجو وفارس عودة وغيرهم في مطلع الانتفاضة الثانية، هو ما حرّك الشارع آنذاك، فإن ما يجري اليوم يبدو أكثر تطوّراً ووعياً، وفق ما يراه المحلّل السياسي، إسماعيل محمد، لافتاً إلى أن «ظهور شخصيات مثل أبطال نفق الحرية، والشهداء جميل العموري وإبراهيم النابلسي وضياء حمارشة، وعائلات الشهداء مثل والدَي النابلسي ورعد خازم، نَقل الشارع ومكوّناته إلى مربّع جديد»، مضيفاً «(أننا) نستطيع القول إن الضفة استيقظت بعد أكثر من خمسة عشر عاماً من الإلهاء، ووجدت أن إسرائيل اشترت هدوءاً بأموال التنمية والرفاهية والعمل في الداخل المحتلّ، لتمرير مشروعها الاستيطاني الذي أتى على مستقبل الأجيال المقبلة، فيما تقف السلطة عاجزة عن تحقيق أيّ إنجاز، أو تقديم إجابات عن سؤال أين نحن، وما هو مستقبلنا؟». أمام ذلك الواقع، يحقّ القول إن «الضفة الغربية لا تعيد إنتاج الانتفاضة فحسب، بل تعيد العلاقة مع المحتلّ إلى سياقها الطبيعي، أي المقاومة في مواجهة الإقصاء والتذويب»، كما يَختم محمد.
المصدر:” الاخبار – يوسف فارس”
**