بعد السويد في أقصى القارة الاوروبية تجد الاحزاب اليمينية متنفسا جديدا في أقصى جنوب القارة بعد ان احدثت الانتخابات التشريعية الإيطالية المبكرة والتي أجريت في 25 ايلول 2022 عن فوز “جورجيا ميلوني” زعيمة حزب “إخوة إيطاليا” زلزالا سياسا كبيرا وصلت ارتداداته الكبيرة إلى دول الاتحاد الأوروبي .
فلأول مرة يختار الناخبون رئيسة وزراء في إيطاليا، وهي شخصية سياسية تسعى إلى تشكيل أكثر حكومة يمينية في البلاد منذ الحرب العالمية الثانية؛ الأمر الذي يحيي هواجس الايطاليين خصوصا والاوروبيين عموما والتي تتعلق بوضعية المهاجرين من العرب والمسلمين والافارقة الذين يدخلون دول الاتحاد الأوروبي بالآلاف سنويا عابرين البحر المتوسط بطريقة شرعية او خلسة.
لا تخفي الاحزاب اليمينية الاوروبية بشكل عام مشاريعها التي تركز على مسألة إحياء القومية الضيقة وبالتالي تقصي المهاجرين خاصة من غير الأوروبيين وتدعو إلى دول أوروبية قومية ووطنية متجانسة اجتماعيا وثقافيا ودينيا، الأمر الذي يحيل على معاداة العرب والمسلمين في المشروع اليميني المتطرف.
وهو مشروع بنت عليه زعيمة اليمين الفرنسي مارين لوبان حملاتها الانتخابية السابقة. وعلى خطى لوبان تقود “ميلوني” حزبا متغلغلا في الحركة الفاشية التي أسسها “بينيتو موسوليني” الزعيم الإيطالي السابق خلال فترة الحرب العالمية الثانية؛ وهي يةتحمل برنامجا سياسيا يقوم في احد بنوده على إغلاق حدود البلد الذي يقصد سواحله سنويا عشرات آلاف المهاجرين غير النظاميين القادمين من دول عربية وافريقية بحثا عن حياة كريمة لم تتوفر لهم في بعض بلدانهم.
وفي اطار الإعلان عن مشروعها أعلنت “ميلوني” عن معركتها في الدفاع عن مصالح ايطاليا القومية؛ من خلال التمسك بمشروعها للحكم الذي يقوم على مرتكزات اساسية من بينها “نعم للعائلة الطبيعية، لا للوبي مجتمع الميم، نعم للهوية الجنسية، لا لأيديولوجيا الجندر، ولا للهجرة الجماعية والعنف الإسلامي؛تحيا إيطاليا، وتحيا أوروبا للوطنيين”.
هناك جملة من الدلالات المهمة عبَّر عنها فوز اليمين الإيطالي بالانتخابات التشريعية؛ وتأتي في طليعتها فقدان الإيطاليين الثقة بالنخب التقليدية بعد ان بعث الناخب الإيطالي برسالة واضحة عبر صناديق الاقتراع لدعم حكومة يمينية تحاكي هواجسه وتجسد طموحاته في مستقبل بلاده. كما أن المزاج الانتخابي لم يقتصر على فقدان الثقة بالطبقة السياسية التقليدية فحسب بعد ان جاءت نتائج الانتخابات لتكشف عن تحولات راديكالية في المزاج الانتخابي العام للناخبين الإيطاليين الذين اقترعوا لتيارهم اليميني بسبب التأثير المعاكس للأوضاع الاقتصادية المتردية في البلاد وتفاقمها خلال السنوات الأخيرة، والتي تشكل أحد الاعتبارات الرئيسية التي يمكن في ضوئها فهم صعود اليمين في إيطاليا ؛ حيث انخفضت إنتاجية الاقتصاد الوطني، وشهدت إيطاليا العديد من الأزمات بسبب الضعف في البنى التحتية، وتراجع قطاع الاستثمار، وارتفعت معدلات التضخم بدرجة كبيرة، وزادت الأسعار، خصوصاً مع تداعيات جائحة كورونا فضلا عن تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية؛ ما يعني أن الإيطاليين صوَّتوا عقابياً ضد ائتلاف حكومة الوحدة الوطنية الذي قاد البلاد في السنوات الأخيرة واعلن عن دعمه العسكري لأوكرانيا؛ الأمر الذي أدى إلى انهيار هذا التحالف وبناءً عليه تراجعت نتائجه الانتخابية، في ضوء توظيف اليمين هذا التفكك.
على صعيد آخر تربط بعض التقديرات بين صعود التيار اليميني في إيطاليا بسبب التجاهل الكبير الذي طغى على تعامل الحكومات المتعاقبة على الحكم مع أزمات أطراف المناطق الحضرية، وهي المناطق التي مثَّلت، على مدار العقود الماضية، أرضية خصبة للأحزاب الشعبوية؛ حيث عانت هذه المناطق من العديد من المشاكل البنيوية التي أدَّت إلى زيادة معدلات الفقر والبطالة وضعف البنى المؤسساتية والتحتية. وفي المقابل حرصت “ميلوني” على تقديم نفسها دائماً على أنها “من الضواحي الحضرية المهجورة في روما”، ومن ثم فهي أكثر من يدرك أزمات المناطق المُهمَّشة، وأكثر من يُعبِّر عن هذه المناطق وأزماتها.
لقد نجحت “ميلوني” في استقطاب الناخب الإيطالي من خلال خطاب انعزالي الذي تُروِّج له؛ إذ يعتقد الكثيرون أن خطاب “ميلوني” تعود أصول أفكاره وأطروحاته إلى الحركة الاجتماعية الإيطالية التي أسَّسها الفاشيون السابقون بعد الحرب العالمية الثانية.
يبدو هذا التقارب من خلال المواقف المتشددة التي يتبنَّاها حزب “إخوة إيطاليا” من الهجرة بجانب التشكيك الشديد في اليورو والمنظومة الأوروبية؛إ تتميز “ميلوني” بقناعات أيديولوجية شعبوية فيما يتعلق برفض ما تصفه بـ”الاستبدال العرقي لإيطاليا من قِبَل المهاجرين”، ونظرتها إلى الدين الإسلامي على وجه الخصوص على أنه “دين تطرف وعنف”؛ ما يعني أن “ميلوني” والائتلاف الحاكم الجديد في إيطاليا سوف يتبنَّى سياسات وقوانين أكثر تشدداً في التعامل مع قضية المهاجرين. وربما يساعد على ذلك التداعيات السلبية التي أنتجتها الحرب في أوكرانيا وموجات اللاجئين الأوكرانيين التي تدفَّقت على العديد من الدول الأوروبية. ولا يُمكِن إغفال أن ملف الهجرة سيُشكِّل محدداً رئيسياً للحكومة الإيطالية الجديدة تجاه منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لا سيما أن أغلب الهجرات غير الشرعية إلى إيطاليا تأتي من هذه المنطقة.
إن هذا المنحى التصاعدي لليمين سيدفع بحسب مراكز الدراسات الاوروبية إلى تشكيل تحالف يميني إقليمي على امتداد دول الاتحاد الاوروبي، وهو أمر قد يؤدي إلى استقطاب سياسي حاد داخل دول الاتحاد؛ حيث جاء هذا الفوز بعد فوز مماثل حققته القوى اليمينية في السويد وسيطرتها على الحكم داخل البلاد.
في الختام، يمكن القول إن فوز اليمين في إيطاليا بالانتخابات التشريعية، عبَّر عن حالة السخط التي تسيطر على المجتمع الإيطالي تُجاه نخب الحكم التقليدية، لكن هذا المتغير قد يدفع باتجاه حدوث العديد من التداعيات التي ستتجاوز حدود الداخل الإيطالي لتمتد إلى السياسة الخارجية الاوروبية، خصوصاً على مستوى العلاقات الأوروبية مع دول منطقة الشرق الأوسط والقارة الأفريقية ، في ضوء رؤية التيارات اليمينية الاوروبية المناهضة لسياسات الهجرة وتدفق النازحين والمهاجرين على اراضيها. وعليه ، فإن مسؤوليات الحكم والأزمة الاقتصادية الداخلية قد تفرض قيودًا على تحركات التيارات التقليدية الحاكمة في اوروبا وتجعلها تتبنى سياساتٍ أكثر واقعية ولو على مستوى جزئي تعتمد على مراجعة وتنقيح بعض الأفكار التي تبني عليها الأحزاب التقليدية رؤيتها على مستوى الحكم وسياساتها الخارجية.