قد يصاب قوم في لحظةٍ من تاريخه بالكَبْو، فتنتكس حركةُ التراكم والتقدم فيه وربّما تنقلب على الأعقاب، فَتَذْوِي فيه روحُ الإبداع وتسقُط حركتُه في الاجترار، بعد إذْ كان في قلب صنّاع التاريخ. ربما ذلك ما حصل لطائفة الموحدين الدروز في لبنان في تواريخ مختلفة من العصر الحديث.
ان الحاجة الى مشروع نهضوي عام وشامل حاجة ماسة في هذا المفصل التاريخي، لأنه هو عينه الحاجة الى مشروع سياسي ـ اجتماعي جديد لا مهرب منه ان اردنا الخروج من حال التأخر والانحطاط، التي نرزح فيها، وفك قيودها المضروبة على حاضرنا. وليس من شك في ان اجتراح مثل هذا المشروع الاجتماعي السياسي ممكن، شرط أن يسبقه ويؤسس له مشروع ثقافي.
بيان هذه الصلة التلازمية في غير حاجة الى كبير شرح؛ إذ ان الثقافة ليست مضافا نافلا يمكن الاستغناء عنه، وانما هي من المجتمع بمنزلة المدماك الذي عليه يقوم صرحه، وتستوي أبنيته كافة.
هذه ليست يقينية نظرية تؤسسها معادلات ذهنية افتراضية حول المشروع النهضوي ، بل هي مما اقام التاريخ دليلا على حقيقته من ظواهره وخبرته وسوابقه؛ إذ ما كان لأمة من الأمم في التاريخ ان تنتهض، أو ان يعلو لها مقام في السياسة، من دون ان يكون لقيامتها مقدمات نهضوية عليها يقوم مشروعها الاجتماعي ـ السياسي.
أوروبا الحديثة، مثلا، ما عرفت طريقا الى ثورتها السياسية ـ التي انطلقت موجاتها من فرنسا في العام 1789 ـ والى الوحدة القومية لكياناتها الممزقة الى اشلاء واشتات، والى بنائها الديموقراطي الحديث، الا بعد ان حملت على مشروع نهضوي كبير قام بتأسيسه ونشره التنويريون في القرن الثامن عشر، واصبحت قيمه مع الزمن ثقافة جامعة للأمم الأوروبية بعد ان تمكنت من اسباب الفشل والهيمنة.
لم يكن المشروع النهضوي التنويري في أوروبا مجرد لحظة من لحظات صعودها الحضاري الجديد، بل كان القاعدة التأسيسية لذلك الصعود، لأن من جوف معطياته الفكرية خرجت المبادئ الكبرى التي ارست اسس النظام الاجتماعي ـ السياسي الحديث.
ليس المثال الأوروبي عن حاكمية المشروع النهضوي لسيرورة الصعود استثناء من القاعدة، أو حالة موضعية لا تقبل التعميم، وانما هو تأكيد متجدد لما تقرر في سوابق من التاريخ لدينا منها ـ في مجتمعاتنا ـ شواهد عدة، ولما لم يكف التاريخ الحديث، منذ قرنين، عن اقامة الدليل عليه في امكنة اخرى من العالم خارج أوروبا، والمفهوم من هذا ان الامر، هنا، يتعلق بقانون تاريخي لا بحالات اجتماعية متفردة كان لمفعول التطور النهضوي فيها سلطان خاص.
ان المشروع النهضوي ليس محض مرآة تعكس تحولات مجتمعنا والسياسة فحسب، وانما هذا المشروع الذي نطرحه اليوم فاعل كبير في مجرى تحولات ذلك المجتمع، وعامل من عواملها الصانعة.
إذن، نحن بحاجة الى ذلك المشروع النهضوي – الاجتماعي ـ السياسي الذي نريده شاملاً وجذرياً بحيث يكون بمستوى تحديات الواقع القائم والقاتم، واقع التأخر والانحطاط والتبعية والاستبداد، الذي ينهش جسم الدولة والمجتمع.
والحاجة هذه ليست جديدة، أو وليدة لحظتنا الراهنة، بل هي عريقة في القدم: منذ أن أحجم اصحاب الشأن والقرار داخل مجتمعنا عن تزويد الاجتماع والسياسة بحاجتهما من القيم والرؤى. ولقد كان ذلك، على التحقيق، في جملة ما صنع فصولا من مأساتنا التاريخية التي امتدت في الزمان لفترة طويلة حتى أيامنا هذه ، هي فترة ما اصطلح عليه باسم عصر الانحطاط هذا الذي بتنا نعيش الكثير من ظواهره وتداعياته التدميرية على الكيان اللبناني. ان السياسة المطلوبة، اليوم، والمعوّل عليها للخروج من الأزمة الراهنة ، التي تفتح امامنا ابواب التقدم والمشاركة الفعالة في صناعة الحاضلر والمستقبل ،لا تستقيم اذا ما اقترنت بالمشروع النهضوي الذي يشكل المعادلة الذهبية للحد من الانتكاسة التي لحقت باللبنانيين جميعا على مختلف مشاربهم السياسية والاجتماعية والثقافية.
لا بد، هنا، من التشديد على ان المشروع النهضوي لا يراد به حصرا ذلك الحيز من الحصول على الفتات في منظومة الحصص النيابية والوزارية والوظيفية ، انما يمتد الى حيز اوسع من ذلك وهو يشمل زيادة نسبة الوعي عند الأفراد وتحريرهم من قيود الرجعية والتخلف والتبعية العمياء، والتمرد على المعتقدات السياسية البالية والاصنام البشرية الخ.
المشروع النهضوي ، فوق هذا كله، هو العامل التأسيسي للبنية الاجتماعية كافة؛ يعالجها جميعها ويؤسس قواعدها وقيمها الأخلاقية والمعنوية، بل هو منظومة من التعبيرات المختلفة التي يفصح الافراد والجماعات من خلالها عن الذات والطموحات والأفكار والأدوار في مجال الحياة المجتمعية العامة، والتعبير عن وعي دورهم الخاص في تنمية إمكانية قيام مشروع اجتماعي سياسي للتقدم: انه المشروع النهضوي كما فضّلنا تسميته.
ليس عسيراً أن ندرك أن المشروع النهضوي محمول على معنى التحرر وفيه منزلة مشروع التغيير. أما عكس المشروع النهضوي الانحطاط والتأخر والتبعية والتخلّف، إلخ… وهذه جميعها ظواهر قابلة للقياس قياساً علمياً، عن طريق المقارنة بين الحاجات الاجتماعية عند المجتمع الدرزي وبين المستوى الفعلي لإشباعها، مثلما هي ظواهر مشعور بها من طرف الأفراد الذين تقع عليهم تلك الظواهر وينوئون تحت وطأة أحكامها.
وللأسباب تلك يسعنا أن نحدد وجوه حضور ذلك الانحطاط أو التأخر و بالتالي وجوه الحاجة إلى المشروع النهضوي الذي نمّحي به تلك الظواهر، وتنفتح به الأبواب الموصدة في وجه مجتمعنا ، وفي مواجهة طموحه العارم في التقدم والنهوض والانخراط في العصر وفي صناعة التاريخ.
يزدحم المجتمع اللبناني بظواهر الانحطاط وهو يعاني ، ست آفات مُهلكة هي: التجزئة والفقر والتبعية والاستغلال والفساد والاستبداد. ويتضافر فعل هذه العوامل، كلاً وبعضاً، في إنتاج وإعادة إنتاج تلك الظاهرة التي ننعتها بالانحطاط أو بالتأخر. يتسع الحديث أمام وصف هذه الحالة المديدة من المرض السريري الذي دخل فيها مجتمعنا منذ عقود طويلة ، وحاول بعض الجسم الحي فيه أن يدفعه عنه وأن يقوى على كف حظه العاثر. ومع ذلك، لا مهرب من بعض التعيين المختصر، لأن به يستبين معنى الحاجة إلى مشروع نهضوي بما هو الجواب الشامل والمطلوب عن نازلة التأخر هذه، والرد على كل مظاهر التبعية العمياء ، حيث السياسات الرجعية والاقطاعية تُلقي القيد على أي طموح تنموي مستقل، وتفرض على سبل المعيشة الاذناب لمشاريعها الخاصة، ناهيك بأحكام مجحفة تلقي بقيودها المثقلة على اي ضرب من ضروب الانعتاق من شرانق العبودية؛ والفوارق بين الفئات الاجتماعية فاحشة ويزداد خرقها اتساعاً مع الزمن، ومع الإخفاقات التنموية المتكررة وهيمنة الاقتصاد الطفيلي غير المنتج، وتكشف هوّتها السحيقة عن القدر المخيف من السوء الذي يطبع توزيع المغانم في مجتمعنا؛ والفساد ضارب أطنابه في الامتداد؛ حيث الاستيلاء على اموال الناس والهدر المالي والارتشاء وثقافة الزبائنية السياسية ، فضلاً عن زيادة معدلات البطالة في صفوف الشباب والشابات المتعلمين، ناهيك عن الفساد السياسي الذي ما عاد ينحدّ بتزوير الانتخابات، واستخدام المال الحرام لشراء الذمم، بل تعدى ذلك إلى استخدام كل اشكال العصبيات ونبش القبور؛ والتفرّد بالقرار داخل الطوائف زاد معدلاً مع ضمور دور المثقفين والاحرار، وزاد معه الشطط في استعمال السلطة والتفرد والقوة، والعداء على الحقوق المدنية والسياسية، بما فيها الحق في العمل السياسي والتمثيل النيابي والوزاري.
هذا وصف سريع لمظاهر الانحطاط وظواهره في الاجتماع السياسي اللبناني المعاصر، يمكن الافاضة في بيان اسبابه وعوامله بشكل كبير ، مثلما يمكن المزيد من الاستشهاد عليه بما اصاب البنية الثقافية والقيم الثقافية من تشوهات خطيرة، وما اصاب منظومة القيم الاجتماعية من تصدع وتفسخ. وقد كان لذلك التدهور المروّع كلفته الاجتماعية الكبيرة: البطالة المتزايدة، والتهميش الاجتماعي، والفقر المتفاقم، وتدهور مركز الطبقة الوسطى في المجتمع، وإفراغ الأرياف من ساكنيها
فلا غرابة عندئذ، في ان يصنّف لبنان أسوأ تصنيف على صعيد المستوى الاقتصادي والاجتماعي فكل أبناء الوطن مهجرون في قراهم وبلداتهم ومنازلهم، لأن الفقر والبطالة وغياب المؤسسات التربوية والصحية والاجتماعية والاقتصادية الفاعلة شكل من أشكال التهجير.
ليس من دواء عاجل لهذا الانحطاط سوى المشروع النهضوي، الذي يشكل رد مباشر على كافة الآفات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية؛ وهو الداء الشامل وبالتالي على الدواء ان يكون شاملاً بحجمه. ولا دواء للانحطاط الا نهضة يبدأ الأستعداد والتخطيط لها. وأول الطريق اليها رؤية تلحظ أساس المشكلة وتعيّن نوع الأجوبة.وهكذا فالنهضة التي ينبغي السعي اليها لن تكون ناجعة ان لم تكن شاملة مترابطة الحلقات والأهداف؛ إنها الوحدة في مواجهة التفرد والاقصاء والتهميش ؛ والوعي المستقل في مواجهة التبعية؛ والعدالة الاجتماعية في مواجهة سوء توزيع الثروة؛ والتحرر في مواجهة الغطرسة؛ والثورة الثقافية في مواجهة التطرف والتعصب والتبعية والتحجر؛ وقيم الانتاج في مواجهة ثقافة الريع، والتجدد في مواجهة الانكفائية والشرنقة، الخ… وما اغنانا عن القول ان هذه الأهداف مترابطة لا تقبل المقايضة او الانتقاء ، وهي المفتاح لمواكبة العصر في متطلباته لا في أهوائه وشهواته.
ان المشروع النهضوي جاء ليؤكد أن ساعة الفجر قد زفّت .. وأن الصبح قد أشرقت شمسه .. وأن نهضة مجتمعنا على الأبواب … وأن المواطنين العطشى قد وصلوا عبر التجارب الذين خاضوها في طريق الانقسامات إلى حقيقة ترى في التغيير هو الملاذ الوحيد أمام مستقبل ابنائهم… وأن قيمه كفيلة بإخراجهم من وهدتهم وشقوتهم.. وأن بلورة مشروع النهضة كفيلٌ بأن يفكَّ الانقسام التقليدي والتدميري الجاري في المجتمع ، هذا الإشتباك الذي استنزف الطاقات ، وساهم في تأخير ظهور نموذج نهضوي شامل الذي عليه أن يُؤسس لمنهجية جديدة في بناء الأجيال الطالعة ،ويعمّق النظر والتحليل والإبداع، ويؤسس لتفكير استراتيجي في معالجة الواقع، ويؤصل هذا البناء بمخزون قيمي ومعرفي توحيدي ينعكس علىى قيمنا الاجتماعية والسياسية وعلى مناهج التربية الاسرية والمدرسية والجامعية.
فهل يمثل المشروع النهضوي فعلاً نقلة نوعية على طريق تجديد الحياة المجتمعية، ومشاريع النهضة عند الفرد اللبناني ؟ وما هو الدور الذي ينبغي أن يضطلع به المثقفون لتعضيد هذا المشروع، باعتباره شأناً حيوياً وجوهرياً لبلدهم ، إذا ما أرادت أن تساهم بفعالية في مسيرة بناء الوطن؟ هذه الأسئلة وأخرى ذات علاقة، ستكون مواضيع للمناقشة في سلسلة أحاديثنا القادمة عن المشروع النهضوي.
**