منذ بداية القرن الحادي والعشرين وفي ظل تداعيات سقوط الاتحاد السوفياتي والمعسكر الشرقي وسقوط حائط برلين واتفاقات أوسلو ووادي عربة وحرب الخليج الأولى، أتحفتنا الطبقة السياسية العربية عامة واللبنانية خاصة بأدبيات جديدة وعلى رأسها اتهام من لم يساير التيار الأحادي العالمي الجديد باعتماده “اللغة الخشبية”؛ مع التشديد على المطالبة باعتماد “لغة الحداثة” في مقارباتنا كي نستطيع أن نواكب العصر. وقد لفتتني هذه المطالبة وقررت أن أقارب الموضوع من منظور علمي، أليس من المفروض بالعلم أن يكون هو سيد الموقف عند اعتماد “الحداثة”؟
أما على الصعيد العربي، فإن مصر كانت السباقة في اعتماد “لغة الحداثة” من خلال اتفاقية كامب دايفد التي كانت البذرة الأولى بتقبل إسرائيل والتنازل عن الأرض العربية مقابل “السلام”، وذلك بمواجهة العنوان الرئيس “للغة الخشبية” المتمثل بـ”لاءات الخرطوم الثلاثة”. وتبع مصر كل من منظمة التحرير الفلسطينية من خلال اتفاقية أوسلو، فالأردن من خلال اتفاقية وادي عربة، فمكاتب التمثيل الإسرائيلية في قطر والمغرب، فالجامعة العربية من خلال مبادرة السلام العربية، فانقلاب مواقف الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي وإنكاره “اللغة الخشبية” لصالح “لغة الحداثة” وتحالف كل من الرئيس اليمني السابق والرئيس التونسي السابق مع الولايات المتحدة. أما النتائج فحدث ولا حرج، إجتياح لبنان من قبل إسرائيل، حصار غزة، الجدار الفاصل، المزيد من المستوطنات في الضفة والقطاع، عناقيد الغضب ضد لبنان، حفر أنفاق في أساسات الأقصى، بروز الحركات التكفيرية، عمليات 11 أيلول في الولايات المتحدة الأميركية، إحتلال العراق، تقسيم السودان، سقوط جميع زعماء “لغة الحداثة” في الدول العربية لصالح الحركات الإسلامية والثورات التكفيرية. سقط مبارك وأتانا مرسي والدماء لا زالت تسيل وبدأت ملامح الحرب الطائفية في أرض عبدالناصر، سقط القذافي وأتتنا العصابات المسلحة الأصولية التكفيرية، سقط علي عبدالله صالح واندلعت المعارك الأهلية، سقط زين العابدين بن علي وأتتنا الحركات الإسلامية لتشطب الصالح مع الطالح وتشن حرب عشواء على المنظومة المدنية لتونس؛ غريب أمر هذه الحداثة التي تريد تقويض الدولة المدنية، أوليست الدولة المدنية “حداثة”؟ وفي الختام، أتحفتنا “لغة الحداثة” بما يسمى “الثورة السورية” وتطورت لتصبح ثورة “يا غيرة الدين” وقودها من السوريين والخليجيين واللبنانيين والشيشان والألبان والأفغان والأتراك، بقيادة حامي حمى الدين باراك “حسين” أوباما والداعية فرنسوا أولاند وأمير المؤمنين رجب طيب أردوغان والخليفة المعتصم حمد بن خليفة آل ثاني حيث تم استبدال “اللغة الخشبية” كتعبير وامعتصماه “بلغة الحداثة” وتعبير واحمداه (قلة فرق!)؛ وكان ختامها مسك بغارات الطيران الحربي الإسرائيلي على سوريا. ولكن، وامفاجأتاه… لم يسقط الأسد كما سقط أقرانه من العرب، لماذا؟ ما هو سر بقائه؟ أليس هو الوحيد من الزعماء العرب الذي تمسك “باللغة الخشبية” ورفض “لغة الحداثة”؟ وأتت القشة التي قصمت ظهر البعير عندما قررت الإمبراطورية القطرية مدعومة بمفخرة “لغة الحداثة” المتمثلة بجامعة الدول العربية باستبدال الأراضي الفلسطينية التي لا تملكها بأراض فلسطينية تم اغتصابها، وذلك مع المغتصب نفسه من أجل “السلام”؛ حيث تم استخدام العنوان الأكبر “للغة الحداثة” ألا وهو “السلام هو اسراتجيتنا” وكذا!!!
أما إقليمياً ودولياً، فقد انتفض المارد الروسي على “لغة الحداثة” التي حكمته لسنين وأذلته في بوتقة الماركنتلية الأميركية وعاد “للغته الخشبية” وأعاد لروسيا أمجادها. كما صمد الكوري “بلغته الخشبية” بوجه هيمنة “لغة الحداثة” التي قسمته يوماً ودمرت حجره وبشره، وصمد الكوبي “بلغته الخشبية” بوجه وحشية “لغة الحداثة” الأميركية واستمر شامخاً غالباً، وانتفض الفنزويللي بشخص الراحل تشافيز على “لغة الحداثة” وتبنى قضايانا “الخشبية” ويستمر بخليفته مادورو، كما خطت إيران سطور من النضال والصمود “الخشبيين” بوجه استسلام “الحداثة” وجعلت من القضية الفلسطينية القضية الأم في سياساتها الإقليمية والدولية فكانت عن جدارة سيدة “اللغة الخشبية” من غير منازع؛ وما زالت منتصرة.
أما لبنانياً، فقد تم اعتماد “اللغة الخشبية” من قبل حزب الله والحزب الشيوعي اللبناني والحزب السوري القومي الاجتماعي وحزب التوحيد العربي وحركة أمل والتنظيم الشعبي الناصري وتجمع العلماء المسلمين والمرابطون وغيرهم من الأحزاب والقوى المسماة 8 آذار، وكانت النتيجة انسحاب العدو الإسرائيلي من أرضنا وتحرير جميع الأسرى اللبنانيين من السجون الصهيونية. واعتمدت القوى والأحزاب السياسية الأخرى المسماة 14 آذار “لغة الحداثة” وانضوى تحت جناحها أو حام في فلكها الجماعة الإسلامية وحزب التحرير والداعية الشهال والشيخ الأسير والداعية بكري فستق ودعموا جميعهم “الثورة السورية” باسم “لغة الحداثة” بما فيها خطف اللبنانيين في إعزاز وخطف المطرانين وقصف الهرمل ومحيطه وتفخيخ السيارات في أحياء المدن السورية وتكفير كل الآخرين وقطع الرؤوس على الشاشات وتهديد لبنان بالويل الثبور من قبل ممثلين عما يسمى “بالجيش السوري الحر” والدعوى إلى الجهاد، ليس ضد إسرائيل، بل ضد “الرفضة والنصيريين” السوريين واللبنانيين، حيث لا نستطيع أن نقول لهم أن هؤلاء “الرفضة والنصيريين” هم عرب من أهل هذه الأرض وليسو من آسيا الصغرى كالشيشان والألبان وغيرهم، لأن هذا القول هو ضمن استخدام “اللغة الخشبية”
أما شخصياً، فإني أتوجه إلى رفيق السلاح والقضية، رفيق الدم والنضال، إلى نزار البعيني. فقد جبلت دماء أجدادنا سوياً منذ معارك شقيف تيرون منذ حوالي أربعة قرون، مروراً بالقتال القيسي-اليمني ومحاربة العثماني والانتداب الفرنسي وحمل لواء القضية الفلسطينية والقضية الأرمنية والقضية الكردية وثورة 1958 وحرب السنتين وتبني قضية عرب المسلخ وعرب خلدة والاجتياح الإسرائيلي وحرب الجبل وانتفاضة 6 شباط وإسقاط اتفاق 17 أيار وجبهة المقاومة الوطنية اللبنانية (جمّول). أعتذر منك يا رفيقي أن يتم اغتيال ولدك على الأرض التي ساهمت أنت وعائلتك وقريتك في بقائها أرضاً لبنيها. أعتذر منك يا رفيقي أن يتم اغتيال فلذة كبدك من قبل مندوب عن دار دفعت أنت شخصياً وآباءك وأجدادك دماءكم وأرزاقكم ومستقبلكم من أجل بقائها واستمرارها. فإن كان البعض ينسى، فإنني لا أنسى عندما انفض الجميع عن هذه الدار في الاجتياح الإسرائيلي، أتى شباب مزرعة الشوف وعلى رأسهم آل البعيني زرافات ووحدانا ودخلوا الدار عزل يريدون الدفاع عنها باجسادهم. عذراً يا رفيقي وعذراً يا بشار ويا أمجد ويا أم أمجد، فإنني مثلكم مغدور كما الوئام الذي يحمل الراية اليوم عصياً عن الكسر وقد سلمت ثقتك له وهو أهل للثقة، فهو الكمالي الذي يمثل عن حق رسالة المعلم الخالد في الإخلاص والثبات والكرامة. ولكنه واجبي يا إبن البعيني أن اقول لك ولعائلتك ولقريتك “كيفك عالفضل”.
ولا يسعني في الختام إلا أن أتوجه إلى المعلم الخالد كمال جنبلاط وأقول له عذراً معلمي على ما يبدر من دارك، فإن أرادوا هم إلغاؤك فنحن لهم بالمرصاد وسنظل متمسكين بأقوالك “الخشبية” وسنظل نردد أقوالك ونسلمها أمانات لأولادنا ورفاقنا وأصدقاؤنا. لن يتقهقر التاريخ، لن ندع إرث كمال جنبلاط يضيع في خضم محاولة استبداله بإرث بشير جنبلاط والست نظيرة. إننا نعلم يا معلمي أننا “لم نعد وحدنا في العالم، إنما المطلوب هو الصمود”. وما زلنا يا معلمي مستعدين للمواجهة، رافضين الاستسلام قناعة منا بما قلته لنا “إنها معركة نكون أو لا نكون”. وسنظل نكرم شهداء المقاومة ونجل تضحياتهم وندعم نضالهم وسلاحهم إيماناً منا بمقولتك “هل هناك أشرف من العبور فوق جسر الموت إلى الحياة التي تهدف إلى إحياء الاخرين؟” ولن ننسى القضية الأم التي ما تزال دماؤك تحفرها في ذاكرتنا وكانت لم تجف بعد: “الحق الحق أنا ديني وسلاح الثورة يحميني، رمزي والفخر فلسطيني والمعول ذخر والقلم”. ولا تسألني يا معلمي لماذا فكرك خرج من بيته وأصبح له بيت جديد، فإجابتي بكل فخر قولك “الخشبي” الخالد: إذا خير أحدكم بين حزبه وضميره، فعليه أن يترك حزبه وأن يتبع ضميره؛ لأن الإنسان يمكن أن يعيش بلا حزب، لكنه لا يستطيع أن يحيا بلا ضمير.
**