وقبل الغوص في تفاصيل اقتراح «الكابيتال كونترول» الجديد، ينبغي فصل القرار المتعلق بموضوع «فرنسبنك» عن ملفات القاضية عون. ففي حالة «فرنسبنك»، أكّد القضاء اللبناني وجوب إعادة المصارف ودائع الدولار القديم بالدولار النقدي (Fresh) أو من خلال تحويل الأموال إلى خارج لبنان، رافضاً السداد بموجب شيك مسحوب على مصرف لبنان. ويتماشى هذا القرار مع الاجتهاد في المحاكم اللبنانية حول السداد بعملة العقد وقرار مجلس شورى الدولة الرقم 213 /2021 وقرار المحكمة البريطانية ضد بنك «عودة» و»سوسيتيه جنرال» أخيراً. ولطالما أيقنت المصارف اللبنانية بحصول هذه الوضعية القانونية فحوّلت أموالها الخاصة وأموال بعض المدعومين إلى الخارج، ثم ضغطت على مجلس النواب لإقرار قانون «كابيتال كونترول» يشرعن عدم سداد الودائع لأصحابها ويحميها من الإجراءات القضائية.
ويعطي اقتراح «الكابيتال كونترول» الجديد صلاحية الاستحواذ على ما تبقّى من دولارات المودعين (ومن ضمنها احتياطي الدولار في مصرف لبنان) إلى الحكومة ومصرف لبنان، ليتصرفا فيها كما يحلو لهما. فيمكنهما مثلاً استنزافها في عمليات دعم أو تمويل خسائر الكهرباء أو صرفها على صفقات عمومية وتعهدات وتلزيمات ترغب الحكومة في تمويلها من دولارات المودعين. كما يعطي القانون لجنة مؤلفة من بعض الوزراء والمصرف المركزي حق تقرير من يحق له سحب أمواله أو تحويلها إلى الخارج بنحو استنسابي، ويفتح المجال أمام المحاباة والواسطة والفساد. فيكفي أن يزعم بعض المشمولين بعطف اللجنة أنّهم يستوردون مواد طبية، أو غذائية، أو نفطاً أو معدات ومواد أولية للصناعة، أو أنّهم يستوفون شروط استثناء جديد تفصّله اللجنة، ويؤمّنون أوراقاً ثبوتية، ليُسمح لهم بتحويل أموالهم إلى الخارج. وفي المحصلة، وبدل أن يحمي «الكابيتال كونترول» ما تبقّى من دولارات المودعين، فهو يشرعن هدرها.
وبدل محاولة تحرير الليرة من القيود والمحافظة على قيمتها وإعادة الثقة فيها لإعادة استخدامها في المعاملات التجارية، يضع «الكابيتال كونترول» الجديد قيوداً على السحوبات والتحويلات ونقل الأموال بالليرة اللبنانية، ويمنع المواطن العادي من تحويلها إلى عملة أجنبية. وتعرقل هذه القيود على الليرة عملية إعادة إنعاش الاقتصاد اللبناني وتحدّ من قدرة الناس على التبادل التجاري وتعمّق الركود والبطالة. وعلى منوال الاستثناءات من القيود على الدولار القديم، تفتح الاستثناءات في عمليات صرف الليرة الباب أمام المحاباة والاستنسابية. وتحفّز هذه القيود مصرف لبنان على ضخ مزيد من الليرة في المصارف لتمويل عجز الموازنة العامة من جهة وتليير الدولار القديم من جهة أخرى، مطمئناً من عدم قدرة أصحاب حسابات الليرة على تحويلها الى دولار.
وبحسب تقديرات الحكومة، لا يمكن المصارف إعادة أكثر من نحو 30 مليار دولار للمودعين، بينما تبلغ ودائع الدولار في المصارف نحو 100 مليار دولار. من هذا المنطلق، تتبع قرارات القضاء اللبناني والأجنبي بالدفع للمدّعين على المصارف منطق الأولوية بالأسبقية، بمعنى، أنّ من يرفع دعوى أولاً هو الذي يحصل على أمواله. ومع ذلك، وبسبب عدم وجود أموال كافية لخدمة الجميع، فسيتعذر على المصارف الدفع. حينها يفضي المسار القضائي الى الحجز على المصارف وتسدّد المؤسسة الوطنية لضمان الودائع المبالغ المشمولة بضمان الودائع. ثم يتمّ تسييل الأسهم والعقارات والقروض وبقية موجودات المصارف وتوزّع المداخيل على المودعين كلٌّ حسب حجم وديعته، فيخسر أصحاب المصارف مصارفهم ويسترجع من أودع مبلغاً يفوق 75 مليون ليرة نحو 30% منه
وقد كان من الممكن وضع خطة تهدف الى استرجاع أكثر من 30% من أموال المودعين، ما يبرّر سحب الملف من يد القضاء ووضعه في يد الحكومة عبر اعتماد قانون «كابيتال كونترول». وقد شرح المدير الأسبق لصندوق النقد الدولي والحاكم الأسبق للبنك المركزي الفرنسي جاك دو لاروزيير تفاصيل خطة تؤدي الى هذه النتيجة، فنصح الحكومة اللبنانية بإنشاء مجلس نقد (currency board) قبل المضي في أي إجراء آخر. واستناداً الى ذلك، كانت الحكومة تمتلك فرصة لتدوير الزوايا وطرح تسوية تعطي المصارف «الكابيتال كونترول» على الدولار القديم مقابل إنشاء مجلس نقد يحرّر المعاملات بالليرة من كل القيود. وتسمح هذه التسوية بزيادة نسبة استرجاع الودائع وإطلاق الحركة الاقتصادية وحماية المصارف. ولكن ومع الأسف، جاء «الكابيتال كونترول» الجديد بصيغة أسوأ من سابقاتها، بهدر ما تبقّى من دولارات المودعين، ويلزم المودع بالتعامل بليرة تفقد قيمتها يوماً بعد يوم.
المصدر:”الجمهورية – د. باتريك مارديني”
**