يُودّع اللبنانيون عام 2021 وسط وابل من اللعنات، التي سقطت عليهم من كل حدب وصوب آملين أن تأخذ معها كل أمراض العجز السياسي، والركود التجاري، والتراجع الاقتصادي، وتدني مستوى الحياة غير المسبوق الذي عانت منه الأكثرية الساحقة من اللبنانيين، طوال هذه السنة العجفاء.
يعتبر كثير من اللبنانيين أن العام المغادر كان من أسوأ الأعوام التي شهدها لبنان، في فترة ما بعد عام الثورة، لأن الحياة خلال هذا العام تحولت إلى حرب ضروس بين المواطنين، استخدم فيها سلاح الهجرة التي تفيد أرقام الجهات النقابية بحدوث هجرة جماعية في عدد من القطاعات، أبرزها قطاعا الطب والتمريض، وبالإمكان الاستدلال على مؤشراتها من الطوابير التي تنتظم منذ ساعات الليل أمام مراكز الأمن العام سعياً للحصول على جوازات سفر تتيح مغادرة البلاد، أضف الى سلاح البطالة والفقر والعجز المالي، بحيث لم يصل المواطن المواطن اللبناني الى هذا الدرك من الذل والاحتقار والهوان في الحصول على ماله واستشفائه وجميع حاجاته فبدأ يقنع بالقليل فيفرح لنصف ساعة من الكهرباء بدل من أن تكون التغذية 24 على 24 ساعة، وكذلك الأمر بالنسبة للمأكل والمشرب التي يؤمنها بحلاوة الروح مقتنعاً بالقليل القليل بدل عدم وجوده.
تحوّلت حياة اللبناني خلال العام 2021 الى حجيم قل نظيره في “الجحيم” ذاته، في حين بقيت الطبقة السياسية الفاسدة على فسادها في عقد الصفقات والسمسرات، والإمعان في عمليات النهب المنظم ليس فقط للمال العام بل تعدى ذلك الى أموال المودعين، فضلاً عن العجز المتمادي في معالجة المشاكل الحيوية والمزمنة، بدءاً من الكهرباء والنفايات، وصولاً الى الفشل في التوافق على تفعيل عمل الحكومة لتتولى إنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل فوات الأوان.
لقد بلغ تعثر السلطة الراهنة حداً، أفقد ثقة المجتمع الدولي والإقليمي الذين قرروا مساعدة بلد الأرز مالياً عبر مؤتمر “سيدر” الذي عُقد في باريس لأجل مساعدة لبنان التي كانت من المفترض أن تموّل العديد من المشاريع الملحة في البنية التحتية، وتستجيب لضرورات إنمائية في مختلف المناطق اللبنانية، شرط تأمين الإصلاحات المالية والإدارية اللازمة للحد من الفساد واعتماد الشفافية وقواعد الحوكمة في إدارة المال العام، وفي تنفيذ المشاريع الإنمائية، فكانت النتيجة ليس الفشل في تنفيذ الإصلاحات المطلوبة وحسب، بل والعجز عن تفعيل عمل الحكومة، بالرغم من اهتمام المجتمع الدولي عبر الحركة الدبلوماسية المكوكية التي يقوم بها مندوبو الدول الغربية والعربية وسفراؤها في لبنان على تفعيل عمل العمل التي حازت على دعم أوروبي ولاسيما فرنسي والى حد ما أميركي سعياً لتحقيق الإصلاحات وإجراء الانتخابات النيابية في موعدها إضافة إلى الوصول إلى الحقيقة في تحقيقات انفجار مرفأ بيروت، حيث يبدي الجميع استعدادهم للتعاون عبر الشركات والمؤسسات لا سيما في المشاريع ومنها إعادة إعمار المرفأ. وتلفت مصادر سياسية ودبلوماسية إلى أن تنفيذ الإصلاحات يعتبر أولوية ومدخلاً أساسياً للمساعدات التي وعد بها لبنان مع تأكيدها أن التوجه بالنسبة إلى المساعدات وهو ما تؤكده الوفود مرتبط بالإصلاحات أولاً، بعد فقدان ثقة المجتمع الدولي بلبنان ومطالبته الجانب اللبناني بإظهار حسن نية في هذا الإطار.
إنهيار الليرة
كل المعطيات المتوافرة تؤكد أن لبنان لم يعد بإمكانه أن يعيش طويلاً في الحالة التي يمر بها اليوم، لأن مقومات الحياة فيه تراجعت إلى الحدود الدنيا، والدولة لم تعد قادرة على الصمود أمام المستوجبات المطلوبة منها في مختلف النواحي، لاسيما تلاشي قدرتها على تمويل حاجياتها الضرورية، وخصوصاً لناحية وصول عجزها مستقبلاً إلى حد عدم تمكنها من تأمين الرواتب وملحقاتها للعسكريين ولموظفي الدولة الآخرين، على الرغم من أن قيمة هذه الرواتب لم تعد كافية لتوفير الحد الأدنى للعيش. وكذلك الأمر بالنسبة لعدم قدرة الخزينة العامة على تغطية قيمة ما تحتاج إليه المرافق العامة الأساسية من مياه وهاتف وكهرباء وقطاع صحي وغيرها، لأن مداخيل الدولة تُجبى بالليرة اللبنانية وعلى التسعيرات القديمة، بينما غالبية متطلبات هذه القطاعات تُدفع بالعملات الأجنبية الصعبة.
فعلى وقع انهيار قيمة الليرة اللبنانية الى أكثر من 92%، وتآكل القدرة الشرائية للمواطنين، وتجميد ودائع المدخرين في النظام المصرفي الذي أصيب بالشلل، ودّع أكثر من نصف الشعب اللبناني حياة الرفاهية بحدها الأدنى، ليتبدل أسلوب العيش ويصبح الإنفاق محصوراً بالضرورات، خاصة بعد الارتفاع الجنوني لسعر صرف الدولار الذي يطغى على المشهد اللبناني، حيث يواصل تكسير الأرقام القياسية، مع تخطّيه عتبة 27 ألف ليرة للدولار وسط توقّعات بأن يستمر بالارتفاع وانعكاس هذا الارتفاع على حركة مريبة أيضاً على صعيد تسعير السلع الاستهلاكية الحيوية، بما فيها الخبز والمحروقات التي تسجل مزيداً من الارتفاع يوماً بعد يوم.
وعزى خبراء اقتصاديون ارتفاع أسعار الدولار إلى عوامل عدة أهمها نفسي نتيجة فقدان الثقة تحت وطأة استمرار الأزمة الداخلية، ببُعديها السياسي والقضائي، والتي تظهر في عجز مجلس الوزراء عن الانعقاد على رغم أهمية الملفات المتراكمة.
وإلى جانب هذا العامل الأساسي، تساهم أسباب أخرى في ارتفاع الدولار، وهي: تراجع التحويلات نسبياً من الخارج في هذه الفترة، وانكماش التصدير الذي يُشكّل أحد روافد العملة الصعبة، وتقهقر السياحة الأجنبية بفعل الاعتبارات السياسية والخدماتية السلبية السائدة.
ويقفل العام على أزمة حكومية، لم تلقَ حلاً لها ومرتبطة بـ “قبع” المحقق العدلي في قضية إنفجار مرفأ بيروت القاضي طارق البيطار، الذي يرفض مجلس القضاء الأعلى تنحيته في وقت يصرّ كل من حركة “أمل” و”حزب الله” و”تيار المردة” على موقفهما الرافض بقاء ملف التحقيق بيد قاضٍ يعتمد على الاستنسابية والكيدية في عمله، إضافة الى تسييس التحقيق، وتوجيهه نحو أفراد معينين، دون آخرين، كانوا على علم بوجود “نيترات الأمونيوم”، وهم كانوا في مواقع المسؤولية، منذ عهد الرئيس ميشال سليمان وحكومتي نجيب ميقاتي وتمام سلام، وبعدهما سعد الحريري وحسان دياب الذي تمّ الإدعاء عليه، وصولاً الى رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، وكذلك وزراء أشغال وعدل ودفاع وداخلية وطاقة كما قادة أمنيين وعسكريين، حيث استدعى البيطار، أسماء معينة، دون آخرين، علموا عبر رسائل موجهة إليهم، بوجود “النيترات”، ولم يتم الاستماع الى إفاداتهم.
ما ينتظره اللبنانيون
وأمام ما مرّ على اللبنانيين خلال العامين الماضين، والأسوأ خلال العام الذي يودعونه، ولم يشهدوا لا في التاريخ القريب ولا البعيد، مثل هذا الإنهيار، حتى في زمن الحروب الأهلية على هولها وبشاعتها وقسوتها، فهم لم يعرفوا هذا الفقر، الذي كان يعوضه المال السياسي الذي كان يُدفع للأحزاب والميليشيات، إضافة الى أموال المغتربين، ثم زراعة المخدرات، بما يسمى “الاقتصاد المقنّع”، الذي منع اللبنانيين من السقوط في الحفرة، التي لا يبدو أنها في العام القادم سيبدأون الخروج منها، لأن التقارير المالية، لا تبشّر بأن لبنان سيتعافى خلال سنوات قليلة، بل بعد 12 عاماً في أقل تقدير و19 عاماً في أبعده، إذا ما بدأ الإصلاح الذي مازال يتأخر، وإن فتح باب التفاوض مع صندوق النقد الدولي، الذي له شروطه، وهي ستكون قاسية على اللبنانيين إذا ما طبّقت، في ظل الانهيار الحاصل، إذ تأخّر لبنان نحو أكثر من عقدين عن الإصلاح المالي والاقتصادي والإداري، إضافة الى السياسي الذي هو شرط العبور الى بناء مؤسسات كفوءة ونزيهة وشفافة، تحارب الفساد والهدر وتمنع الصفقات، يواكبها قضاء مستقل، هو غير موجود، إذ تتوزع المراكز القضائية على الطوائف التي يسمى زعماؤها، الأشخاص، فيتحوّل الولاء من القضاء الى السياسة، ويعم الفساد.
فالعام الذي سيحل على اللبنانيين، لن يكون الأفضل عليهم بل الأسوأ، مع محاصرة لبنان بعقوبات، تقوم بها الإدارة الأميركية، تحت ذريعة محاربة الإرهاب والفساد، إضافة الى قطع دول خليجية علاقاتها مع لبنان، إذ لم تنفع استقالة وزير الإعلام جورج قرداحي، في تغيير موقف السعودية من لبنان الذي تريد من مسؤوليه تنفيذ بنود بيان جدة الصادر عن القمة السعودية – الفرنسية بين ولي العهد الأمير محمد بن سلمان والرئيس إيمانويل ماكرون، إذ جرت مقايضة استقالة قرداحي باتصال بن سلمان مع ميقاتي، الذي عليه أن ينفّذ دفتر الشروط السعودي، وإذا لم يفعل فلا علاقات.
فالعام القادم سيكون الأقسى على اللبنانيين معيشياً واقتصادياً، والذي ينتظر أن تجري في منتصفه الإنتخابات النيابية وفي نهايته الرئاسية، وبينهما لبنان قابع على إنفجار اجتماعي، واهتزاز أمني.
فبماذا ستختلف السنة الجديدة عن أختها المنصرمة، طالما بقيت هذه الطبقة السياسية على حالها من الفشل والفساد والترهل، غير عابئة بوجع الناس، ولا بتردي الأحوال التي وصلت إلى تخفيض تصنيف لبنان الإئتماني، ووصولنا إلى الخط الأخير الفاصل بيننا وبين الدول الفاشلة في أفريقيا وأميركا الجنوبية وأنحاء المعمورة الأخرى، الأكثر تخلفاً في العالم!!
ورغم كل ذلك لا نملك إلا أن نقول: عام جديد وأمل متجدد بقيام الدولة التي نستحقها والتي تلبي طموح الشباب والأبناء والأحفاد!