واضح أنّ حكومة ميقاتي ليست حكومة الحل الكبير، بل هي حكومة تخفيف الوجع وإمرار الوقت في انتظار تسوية داخلية- إقليمية. لكن تخفيف الوجع، في بلدٍ منهار ومهترئ، يستلزم توفير جرعات الحدّ الأدنى من الدعم الدولي والعربي، أي رفع الحصار عن لبنان ضمن حدود معينة.
الخناق الحالي منشأه ضغط مارسته إدارة الرئيس دونالد ترامب، وطلبت من الحلفاء الأوروبيين والعرب الالتزام به، بهدف إخضاع «حزب الله» وإيران. وقد بدأ هذا الضغط في العام 2017. وعندما حاول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تنفيسه بمؤتمر «سيدر»، تدخّل ترامب طالباً من الحلفاء والمؤسسات المانحة تجميد أي دعم حتى تحقيق هذا الهدف. وترافق ذلك مع ضغط سياسي هائل على الحكومة اللبنانية آنذاك. والأبرز كانت «استقالة» الرئيس سعد الحريري في الرياض.
في صيف 2019، حاولت السلطة الإلتفاف على العقوبات الأميركية التي بدا السعوديون متحمسين لها. قام الحريري بزيارة صديقه ماكرون في باريس مستنجداً، فكان الجواب بأنّ هناك فيتو أميركي يمنع فكّ الحجر عن مساعدات «سيدر».
بعد ذلك، جرّب حظه في الإمارات العربية المتحدة. والجميع يذكر كيف قام الجانب اللبناني، من طرف واحد، بإطلاق الشائعات عن وعود إماراتية بدعمٍ قيمته المليارات. لكن الإماراتيين أبلغوا الجانب اللبناني بضرورة التراجع فوراً عن هذا الكلام. فاضطر لبنان من جانبه إلى إصدار النفي.
واقعياً، يئست المنظومة آنذاك من محاولاتها الحصول على الدعم المالي الخارجي الذي كانت تعيش عليه وتستمر. ولذلك انفجرت «الثورة» في 17 تشرين الأول 2019. ولكن، بعد عامين، ثبت أنّ أسلوب «إقفال حنفية الدولارات» العربية والدولية خنقت لبنان، لكنها لم تخنق «حزب الله» الذي استمر في الحصول على دولاراته.
ضغط الأميركيون والعرب لإسقاط حكومة الحريري سعياً إلى حكومة مستقلة عن نفوذ «حزب الله». لكن «الحزب» عطّل أي محاولة لقيام حكومة من هذا النوع، ونجح في ابتكار الهوية «الملتبسة» لحكومة الرئيس حسّان دياب، من رئيسها إلى غالبية وزرائها. وقد تبيَّن في النهاية أنّها خاضعة لمعايير «الحزب» وتحت سيطرته.
اليوم، يتكرّر النموذج. لكن الفارق هو أنّ العقوبات التي استمرت خلال حكومة دياب ربما تُرفع. وإذا حصل ذلك فستكون حكومة ميقاتي أمام فرصة لاستعادة النموذج القديم، السابق لعقوبات ترامب، أي الحصول على الدولارات من الخارج، بلا إصلاح.
وتبيَّن أنّ الإصلاح ممنوع، وأنّ منظومة الفساد مستعدة لإيصال البلد إلى الموت جوعاً وقهراً وإحباطاً ، بل إلى فتنة طائفية ومذهبية، على أن تلتزم شروط الإصلاح التي تشكّل مقتلاً لها ونهاية.
والرئيس ميقاتي نفسه، عند الإعلان عن ولادة الحكومة، أورد عنوان الإصلاح عرَضاً ضمن لائحة طويلة، ولم يجعل منه ركيزة حتمية لبناء العناوين الأخرى.
في عبارة أخرى، الإصلاح مؤجّل. ولن يخرج لبنان من النموذج الذي أوصله إلى الخراب: الدولارات لا تأتي من الخارج بالإنتاج، بل بتسوّل المساعدات والمزيد من الديون الواردة من المانحين العرب والأجانب والمؤسسات الدولية، من دون شفافية، والتي تُنهَب بغالبيتها.
ربما يُقال إنّ المجتمع الدولي «استسلم» وسئم مطالبة لبنان بالإصلاح. لكن الأدق هو أنّ الغربيين والعرب ليسوا تماماً حريصين على الشفافية وبناء دولة مؤسسات في لبنان، من أجل عيون اللبنانيين. وكل ما في الأمر هو أنّ الإصلاح يشكّل مدخلاً لرفع نفوذ «حزب الله» عن الدولة.
ولكن، إذا توافق الأميركيون والإيرانيون في لبنان أو على لبنان، هل يبقى الإصلاح مطلباً حيوياً أو يصبح أمراً هامشياً يعود إلى اللبنانيين أنفسهم أن يقرِّروا: هل يرغبون في تحقيقه أو لا؟
ستكون حكومة ميقاتي أمام «حظّ» قبول المجتمع الدولي والعرب برفع حصارهم عن لبنان، و»السلام على الإصلاحات». وسيكون الأمر رهناً بقرار واشنطن.
وإذا صدرت الإشارات إلى الحلفاء بالتسهيل في 2021، كما صدرت بالتشدُّد في 2018، فستكون لدى حكومة ميقاتي فرصة الحصول على دولارات «طازجة». وسيعيد الخليجيون جميعاً فتح حنفية الدولارات، وتتحرَّر أموال «سيدر».
هل المطلوب وقفُ الانهيار وتحضير العدّة لإعادة البناء؟ أم إنّ الحكومة هي حُقنةُ مخدِّر هدفها تخفيف الألم وكبح انهيار بدأ يتفلَّت من الضوابط؟ إنّها مسألة أيام أو أسابيع قليلة وتتَّضح الصورة.
المصدر:”الجمهورية_ طوني عيسى
**