بالطريق الى دمشق تتزاحم الأفكار بعضها عاد بي الى اليوم التي أعلن فيه الإرهاب الدولي الحرب على الشعب السوري. ولا يختلف اثنان على فظاعة وصعوبة ما تعرض له الرئيس بشار الاسد من حملات وضغوط تقاطعت مع احداث كان من اخطرها اعلان الحرب الكونية على سوريا في العام 2011 وأحجام أنظمة عربية عديدة عن مساندة دمشق في صد العدوان عن أراضيها لا وبل مشاركتهم في تمويل الحرب بالمال والسلاح . ومع ذلك لم يتخل الرئيس الأسد عن مسؤوليته التاريخية في حماية شعبه ولم يمنع كل ما حصل الى الحد الذي يمنعه من ممارسة تأثيره الخاص، الذي يمكّنه من رسم الحدود التي يريد داخل مربع اللعبة السياسية المعقدة على الساحة الإقليمية والدولية.
فعلاً لا استطيع ان امنع نفسي من الضحك، حينما اسمع من كان يدعو الرئيس الاسد الى التنحي او الاستقالة او الرحيل وفق موضة المطبلين لما سمّي زورًا بالربيع العربي. فهل ان الرئيس الاسد، وهو اول رئيس عربي ممثل بصورة حقيقية لشارعه، والمستند إلى شرعية شعبية يستمدها من ثقة السوريين بخياراته القومية وإلى تحالف دولي – واقليمي متين، يفترض ان يتنحى ويرحل! فعلًا هذه هي النكتة السمجة او لعلها الاستجابة الغبية لأوامر الاحادية الاميركية.
هذا ليس برأي سياسي. بل هي الواقعية بعيدًا حتى عن المحاباة لو حضرت.
بين الموقع وشخصية من يشغل هذا الموقع وحيثيته معادلة لا يمكن تخطيها، معادلة لم امنع نفسي من التفكير بها وانا ادخل الى قصر الرئاسة في دمشق مع وفد كبير وبرفقة رئيس حزب التوحيد العربي وئام وهاب وبحضور كوكبة من المشايخ الاجلاء من طائفة الموحدين الدروز ، وهي المرة الاولى.
ومن دون مراعاة البروتوكول الرئاسي يستقبلك الرئيس الاسد عند الباب، بابتسامة ويد ممدودة، ومحبة للزائر لا يخفيها ان وجدت.. واتسع الوقت على المدخل للوزير وئام وهاب الذي كان يرافقه أيضا نجله “بشار” ان يمازح الرئيس السوري بشار الاسد وهو يقول له: “ابني هادي تزوج مبارح..”، فرد الأسد: ” تشرفنا.. طويل كمان”.
فتابع وهاب ضاحكا: “هو اللي اتفقنا نعمله رئيس”.
غريب فعلاً سيادة الرئيس. قلت في نفسي: من أين يأتي بهذا التفاؤل ما هو هذا السر؟ من أين يأتي بهذه الطاقة؟ وكيف صمدت سوريا بوجه جحافل الإرهاب التي جاءت إلى الشام من كل اصقاع العالم؟ أمضى الأسد ساعتين من الوقت في القاعة الكبيرة، فتح فيها باب الأسئلة للحاضرين، وقدّم مداخلةً وأجوبة حول لبنان وسوريا والمنطقة وموضوع الأقليات، كما تفهمه الدولة السورية. تبدو زيارة دمشق بهذا الشكل، بالغة الأهمية، وتتضمّن عدة رسائل للقاصي والداني، عبّر عنها الأسد بقوله إن “الأقليات ليست أداةً بيد المشروع الغربي الذي يعمل على إقناعها بالتقوقع والانعزال للحماية، إنما الحلّ هو بالانصهار بالمشاريع الوطنية وضمن الأكثرية الوطنية” . وردّاً على سؤال حول ردع العدو الإسرائيلي عن قصف الأراضي السورية عملاً بتجربة المقاومة اللبنانية، أكد الرئيس السوري أن” المقاومة لم تنتصر على العدو إلا بعد أن انتصرت على ميليشيا العميل لحد” في إشارة واضحة لبقايا الجماعات الإرهابية في درعا، والتي جزم الأسد بأن “دورها اليوم تخريبي وسيتم التعامل معها بحزم” . وكلام الأسد حول درعا، ينسحب حكماً على السويداء وعلى محاولات «اللواء السوري» المزعوم، القيام بأعمال تخريب والترويج للانفصال في السويداء، مع أن الأسد والجيش السوري، ومنذ بداية الحرب، تعامل مع جبل العرب بعناية خاصة على الرغم من الاعتداءات التي قامت وتقوم بها العصابات الانفصالية، عبر حصر تهديداتها وتركها رهينة الوقت والفشل أمام أهالي المحافظة.
المرحلة صعبة جداً. واكثر ما يأسف له الرئيس الأسد ما وقعت به بعض النخب السياسية والثقافية في لعبة المصطلحات ومحاولاتهم المتكررة في بث افتراءات بحق سوريا واتهامها بالابتعاد عن الحضن العربي متسائلا “هل ان المقصود بالحضن العربي جامعة الدول العربية التي وقفت ضد الشعب السوري في حربه الكونية ضد الإرهاب الدولي” ؟يدرك الرئيس الأسد جيدًا ان ما حصل مخطط ومدروس وتترجمه جهات دولية وقنوات ووسائل اعلامية لديها دور يبدأ باستهداف سوريا وشعبها وثرواتها الطبيعية من هنا يأتي دور القيادات التي تتمتع برؤية ثاقبة وهي التي تقود الوطن والشعب إلى بر الأمان فالمعركة برأيه” هي معركة حماية العقول حفاظا على الإنتماء القومي” .
بالسؤال عن الاستراتيجية المتبعة في التعاطي مع الدولة اللبنانية لا يبدو الرئيس الأسد متحفظًا بل يؤكد على حرص بلاده في أن لا تخضع العلاقة بين البلدين للمتغيرات الإقليمية وإنما يجب أن تحكمها المصالح المشتركة وتشديده على” ان تكون العلاقات بينهما ضمن أطر المؤسسات والمصالح المشتركة وسوريا ستسهل بالطبع كل شيء من بينها مشاريع إنتاجية على صعيد الطاقة البديلة” .
وعند الغوص في النقاش بالخيارات الاستراتيجية يشيد الرئيس الأسد بمواقف طائفة الموحدين الدروز شارحا بعمق الفرق بين العين التي لا تستطيع أن ترى الا على بعد أمتار قليلة و تكون في غالب الأحيان عاجزة عن رؤية الحقيقة بسبب الضباب المسيطر على المشهد وبين العقل بما يعنيه من نقطة إنطلاق في التقدير الصحيح للقضايا القومية والتمسك بالحق وبناء الرهانات الصائبة وهذه كلها صفات عند بني معروف الذين ينظرون إلى سوريا على حد قول الوزير وهاب في كلمته امام الرئيس الأسد على اعتبارها مكتهم وقبلتهم، وسوريا هي الإطار العام مهما تبدلت الظروف وتمايزت.
لكن ماذا عن العلاقات مع الدول العربية؟ يبتسم الأسد ملياً ويرد بجملة وقائع لعلها تؤكد مدى حاجة العرب لدمشق مبديا في الوقت نفسه استغرابه من اداء بعض الدول العربية التي بدأت منذ فترة بإرسال مندوبيها إلى دمشق بهدف الاستثمار في سوريا ولكنها تريد كل شيء من تحت الطاولة وبعيدا عن الاعلام.
تتشعب المواضيع بالحديث مع الرئيس الاسد. يسيطر الهدوء مع ابتسامة وذاكرة حادة في استرجاع لمحطات ومواقف تشرَح بدقة المشهد السياسي .
كنت انظر مليًا الى وجه لا يبدو انه يعرف التعب. بالمواجهة يبدو شابًا ابن عشرين، وبالحكمة يستكين الى خلاصة تجارب خاضها ولا يزال ابن عرين العروبة في المشرق العربي. الثابت عنده كثير من التواضع والتخفف من مظاهر البروتوكول والفحش اللصيقين للاسف بغالبية اصحاب السلطة في الوطن العربي.
فعلًا لم تبدل الحرب الكونية على سوريا الرئيس الاسد. لقد تم تطويعها جيدًا لتحاكي خصائص قائد عربي استثنائي صاحب تاريخ مشرف وهو الاقدر على مواجهة الارهاب. هي الشخصية ما يعطي الموقع لا العكس، ومخطىء بشدة من يراهن على تعب و مهادنة او تراجع واستسلام من قبَل رئيس جمهورية قال يومًا عن بلاده : ” سوريا الله حاميها”.
**