فقدت غالبية مؤسسات القطاع العام ما بقي لها من دور كانت لا تزال تمارسه ولو ضمن الفساد المستشري فيها ونظام المحسوبيات والرشاوى المتّبع في معظمها، والذي كان يسيّر أعمال المواطنين بعد ذلّهم ودفعهم للتسوّل والتوسّل بهدف الحصول على أبسط حقوقهم.
وجدت الادارات العامة والوزارات نفسها اليوم شبه متوقفة عن العمل نتيجة تعدُّد الأزمات التي تواجهها من انقطاع الكهرباء وفقدان القرطاسية، خصوصاً الأوراق وحبر للطباعة بالاضافة الى إضراب موظفي القطع العام بشكل أسبوعي ما عرقلَ شؤون المواطنين في كافة النواحي، أبسطها عدم تمكّنهم من الحصول على إخراج قيد فردي بسبب فقدان الاوراق اللازمة له، ما يمنعهم من تجديد جوازات السفر. كذلك الامر بالنسبة الى كافة الاوراق الرسمية التي يحتاجها المواطن، خصوصاً من يسعى الى الهجرة، ومن يسعى للتصديق على مستندات عدّة مطلوبة في الخارج. أمّا الكارثة الاكبر فهي متمركزة في وزارة المالية التي تعطّل نظام تكنولوجيا المعلومات فيها وساهمَ، بالاضافة الى الأزمات الاخرى المذكورة، الى تَعذّر تسديد الموجبات الضريبية المستحقة على المكلفين ضمن المهل المحددة وكَبّدهم غرامات مالية، إمّا نتيجة تغيّب الموظفين او انقطاع الكهرباء او فقدان الاوراق والحبر.
في المطار، توقفت الجمارك عن تحصيل الرسوم بسبب نقص في القرطاسية. في الامن العام، توقّف تسيير المعاملات بسبب انقطاع الكهرباء… وبما انّ الكهرباء «مقطوعة» فالمياه أيضاً «مقطوعة» وقد أعلنت مؤسسة مياه بيروت وجبل لبنان أنّ التقنين القاسي يعود إلى التقنين الحاصل في الكهرباء وشح مادة المازوت، حيث تسلمت المؤسسة ربع الكمية التي تحتاج إليها لتشغيل المحطات والمولدات.
الوضع في المستشفيات الحكومية مماثل وأخطر، حيث اعلن مدير مستشفى رفيق الحريري الجامعي فراس أبيض «انّ وضع تغذية الكهرباء للمستشفى غير مقبول، فهناك انقطاع لأكثر من 21 ساعة في اليوم. الفيول غير متوفر، واذا توفّر، نعاني مشاكل سيولة. المرضى لا يستطيعون تغطية الفروقات. أخذنا قراراً بإيقاف أجهزة التكييف، الّا في الاقسام الطبية، رغم موجة الحر. لا داعي لاستعمال المخيلة او للتهويل، نحن في جهنم حقاً».
وسط المشهد غير المسبوق في ادارات الدولة ومؤسساتها الرسمية والذي لم تبلغه حتى في أسوأ الأزمات والحرب الاهلية، يزداد انهيار سعر صرف الليرة بشكل جنوني، وتستمرّ اسعار المواد الغذائية والاستهلاكية بالارتفاع على مدار الساعة، في حين انّ الادوية مفقودة وخدمة الطبابة شبه مشلولة أيضاً، في حين بدأت الاضطرابات الامنية تلوح في الافق… ويبقى السؤال: هل هناك أي مكوّن من مكوّنات الدولة صامد، سوى زعمائها، لكي يصلح بعد تصنيفها بدولة؟
في هذا الاطار، أكد الخبير الاقتصادي منير راشد انّ الضرر الفادح لمصالح المواطنين نتيجة الشلل الذي أصاب مختلف ادارات الدولة ومؤسساتها، يقابله ضرر في مصالح الدولة أيضاً التي ستتراجع ايراداتها بشكل أكبر وأسرع، لافتاً الى انّ مؤسسات الدولة كافة، قبل حدوث تلك الأزمات، لم تكن تعمل بفعالية وأهمّها القضاء، إضافة الى وزارتي المالية والاقتصاد المسؤولتين خلال فترات الأزمات، بوضع السياسات وايجاد الحلول.
وذكَر راشد لـ«الجمهورية» انّ موظفي القطاع العام، التي فقدت رواتبهم قيمتها والذين فقدوا قدرتهم الشرائية، لا يملكون حافزاً اليوم لمزاولة عملهم، علماً انّ نسبة الحضور نتيجة الاجراءات الوقائية ضد كورونا اصبحت 50 في المئة، ما يؤدّي بالاضافة الى كافة المعوّقات الاخرى من انقطاع الكهرباء والقرطاسية وغيرها، الى تأخّر إنجاز المعاملات، «وهي عوامل تُضعف الدولة في وقت هي في حاجة لأن تكون أقوى وأنشط لمواجهة الأزمات والمساهمة في تطبيق الحلول.
وقال: وسط الانهيار المستمرّ وغياب تام للدولة، استُبدلت خدمات الدولة بخدمات القطاع الخاص. وهذا ما سيحصل أكثر فأكثر حيث رأينا كيف بادرَ القطاع الخاص بعد انفجار المرفأ الى اعادة إعمار ما دُمّر. كذلك الامر بالنسبة الى الكهرباء والدواء والتعليم والطبابة وغيرها من الخدمات التي يمكن استبدالها على حساب القطاع الخاص ولو بكلفة اكبر، إلّا انّ بعض خدمات الدولة كالشؤون العقارية ووزارة المالية والمعاملات الادارية الرسمية وغيرها، لا يمكن استبدالها. وبالتالي سيتواصل تدنّي تلك الخدمات الى حدّ عرقلة ووقف أعمال القطاع الخاص.
وختم راشد مؤكداً: «نحن متجّهون نحو انزلاق مستمرّ نحو الأسوأ. وسعر الصرف هو اكبر مؤشر لسوء ادارة الدولة ونوعية سياساتها الخاطئة»
المصدر:”الجمهورية”- رنى سعرتي
**