منذ أن دخلت أميركا إلى سورية محتلة للأرض تحت عنوان محاربة داعش، كان واضحاً أنها تريد فرض أحد مشروعين في سورية، إما السيطرة الشاملة على كامل الدولة وتفكيك محور المقاومة، أو السيطرة على جزء منها وقطع تواصل محور المقاومة ما يشكل تعويضاً ميدانياً لها في حال عجزها عن تنفيذ المشروع الأصلي، ومع إطلاق الجيش العربي السوري عمليات استعادة الأرض من الإرهاب في أيلول 2015 ونجاح تلك العمليات بشكل منقطع النظير، أيقنت أميركا بأنّ مشروعها الأساسي في السيطرة على كامل سورية وتفكيك محور المقاومة قد سقط، وانّ إمكانية إحيائه أو تفعيله باتت شبه معدومة مع استعادة الدولة السورية السيطرة على 80% من جغرافيتها، لذلك تحوّلت أميركا إلى الخطة البديلة والقائمة على أركان ثلاثة أو تتضمّن مسارات ثلاثة هي:
– الأول موجه ضدّ محور المقاومة ويتمثل بسياسة الضغوط القصوى وفرض ما تسمّيه عقوبات، وقد فرضت في تدابيرها الأخيرة إجراءات متشدّدة طالت إيران وسورية وحزب الله في لبنان، أو لنقل طالت لبنان برمّته الذي فيه حزب الله، وكان الفعل الإجرامي الأخير «قانون قيصر» الذي زعمت أميركا أنه موجه ضدّ سورية وهو في الحقيقة يؤلم لبنان مباشرة وإيران أيضاً.
– الثاني موجه ضدّ وحدة سورية ويقوم على فكرة التقسيم التي تنطلق بإقامة كيان كردي انفصالي في شمالي شرقي الفرات للسيطرة على أهمّ منطقة حيوية غنية بالثروات الطبيعية والقدرات الزراعية في سورية وإنشاء برزخ استراتيجي فاصل بين العراق وسورية وتركيا ويؤثر على الترابط بين أركان محور المقاومة ومعهم تركيا، برزخ يشكل عامل عدم استقرار في المنطقة ويحرم سورية من ثروتها النفطية والزراعية ويؤثر على خريطتها الديمغرافية.
– الثالث دفع الدول العربية للتطبيع مع «إسرائيل» بشكل يوحي بأنّ «صفقة القرن» التي أطلقها ترامب مطلع هذا العام هي قيد التنفيذ وانّ نجاحها مأمون لا بل قد يكون مؤكداً وانّ على الفلسطينيين ان يختاروا بين الاكتفاء بالفتات الذي ألقي إليهم وهو فتات قابل للانتزاع منهم أيضاً، او الخروج من الميدان خاويي الوفاض.
خطة توحي مؤشرات كثيرة بأنّ مخاطرها ليست بالقدر الممكن تجاهله، خاصة أنّ لكلّ من هذه المسارات الثلاثة مفاعيل سلبية مؤلمة ومؤثرة على مجمل مسارات الصراع مع المشروع الأميركوصهيوني في المنطقة المشروع القائم على فكرة الاحتلال والسيطرة على الثروات وإذكاء الصراعات المانعة للأمن الاستقرار فيها.
ورغم أنّ سياسة الضغوط القصوى لا شك مؤلمة على الشعب إلا انّ مفاعيلها قابلة للتحجيم والتقليص مع قدر من التحمّل والصبر الاستراتيجي الذي اشتهر به محور المقاومة والذي اشتهر بقدرته على تحويل التحدي الى فرصة تطوير وتقدّم خلافاً لما يرغب به أو يخطط له العدو. كما انّ الدفع نحو التطبيع ورغم مفاعيله الاستراتيجية المستقبلية الخطرة فإنّ أثره يبقى محدوداً في الحاضر في ظلّ رفض الشعوب له ما يحوّله إلى أوراق شبه ميتة مودعة في أدراج المكاتب الرسمية، لكن ما يجري في الجزيرة السورية هو الآن بالغ الخطورة ويستدعي المواجهة والتدخل السريع لوقفه ومنع تكريس أمر واقع فيه يصعب معالجته لأكثر من سبب نتوقف عند أهمّها كالتالي:
1 ـ الخطر السياسي الاستراتيجي والعسكري: انّ إقامة كيان كردي انفصالي في المنطقة برعاية وحماية أميركية من شأنه الإخلال بوحدة الأراضي السورية وإنشاء كيان مزعج مقلق سيتحوّل سريعاً إلى قاعدة «إسرائيلية» متقدّمة تحاصر العراق من الغرب لتتكامل مؤثراتها السلبية مع الكيان الكردي شبه المستقل في الشمال العراقي، وتضع سورية بين فكي كماشة من لجنوبي الغربي «إسرائيل» ومن الشمال الشرقي الأكراد.
2 ـ الخطر الاقتصادي: انفصال الجزيرة السورية عن الوطن الأمّ يعني خسارة سورية لأهمّ الموارد الطبيعية والثروات الزراعية فيها خاصة النفط والزراعة المتعدّدة الأنواع والمياه إلخ…
3 ـ الخطر الديمغرافي الثقافي: من المعروف أنّ أكثرية سكان الجزيرة السورية هم من العرب السوريين في حين أنّ الأكراد لا يشكلون نسبة تتعدّى الـ 23 % من مجمل سكان المنطقة. ويتضمّن المشروع الانفصالي إقامة حكم الأقلية الكردية للأكثرية العربية مع سعي إلى إحداث تغيير ديمغرافي في المنطقة يهدف إلى استقطاب أكراد من خارجها وإخراج العرب من داخلها. أما وسائل الضغط لتفريغ المنطقة من السكان العرب فقد باتت كما هو ملاحظ كالتالي:
ـ الضغط الأمني والملاحقة والتضييق والحصار مع ارتكاب الفظائع الإجرامية بحق المدنيّين لحملهم على النزوح.
ـ الضغط الاقتصادي والاجتماعي، وتدخل هنا ارتكابات «قسد» بقطع المياه وحرق المحاصيل ومنع جنيها، والضغط لمنع توفر السلع الاستهلاكية في الأسواق.
ـ الضغط التربوي والتعليمي: ويبرز هنا ما أقدمت عليه «قسد» من إغلاق المارس الرسمية والخاصة في المدن والبلدات العربية وتحويلها إلى مراكز عسكرية وتخيير السكان العرب بين إرسال أولادهم الى المدارس الكردية ومتابعة الدراسة في مدارس كردية وباللغة الكردية حصراً أو مغادرة المنطقة طلباً للتعليم في مناطق عربية خارجها، أو البقاء خارج المدارس.
ـ وبالإضافة إلى ذلك يقوم أكراد «قسد» برعاية وتوجيه أميركي بمنع كثير من سكان المنطقة من العودة إليها إذا خرجوا منها، وحرمانهم من الخدمات الصحية المحلية ما يضطرهم للخروج منها طلباً لتلك الخدمات، ثم يُمنعون من الدخول عند العودة.
وباختصار فإنّ منطقة الجزيرة السورية تتعرّض لعملية «تكريد» ممنهج، وإعادة تركيب خريطتها الديمغرافية بشكل قد نراه يتجاوز في خطره ما تقوم به تركيا من تتريك المناطق التي تحتلها في الشمال والشمال الغربي السوري.
هذا الواقع يفرض المواجهة السريعة لوقفه، مواجهة نرى أنّ السكان العرب وأبناء العشائر العربية في الجزيرة عرفوا طريقها عبر المقاومة الشعبية التي أطلقوها منذ أشهر وباتت تشكل مصدر وجع وألم للكردي وللمحتلّ الأميركي، ما حمل الأخير على العودة إلى سياسته المعهودة في التلفيق والتزوير وتوصيف المقاومة خلافاً لحقيقتها والقول بأنّ المقاومة إرهاب ولهذا سجلت في الأسابيع الأخيرة مواقف أميركية تعلن بأنّ داعش عادت إلى المنطقة، وانّ القوات الأميركية بصدد ملاحقتها ولذلك تستقدم قوات إضافية من العراق لتنفيذ هذه المهمة ودعم «قسد» أيضاً في ذلك.
أما الحقيقة فهي أنّ أميركا تستقدم داعش إلى الجزيرة السورية وفقاً لخطة عسكرية محكمة وتنشر إرهابيّيها في المنطقة وتكلفهم بالتغلغل بين مجموعات المقاومة وبيئتها ثم تدّعي بأنّ المقاومين هم من داعش وتقوم بملاحقتهم فترمي عصفورين بحجر واحد، تعزيز وجودها العسكري في المنطقة وتبرير ذلك بوجود ما تسمّيه داعش، ثم ملاحقة ومحاربة المقاومة بوصفها من إرهابيّي داعش.
المصدر: امين حطيط – البناء
**