بعد أن تنحّى الهمّ الاقتصادي خلال الأسبوعين الماضيين أمام هول المأساة التي عاشها لبنان بعد انفجار المرفأ، استفاق اللبنانيون على خبر استعداد مصرف لبنان لرفع الدّعم عن الوقود والقمح والدّواء خلال أسابيع، وما يترتّب عليه من زيادة الأعباء المعيشيّة على المواطن الذي يرزح تحت أعباء لا تعدّ ولا تحصى.
فقد أبلغ مصرف لبنان حكومة تصريف الأعمال أنّه لن يدعم الوقود والقمح والدواء لأكثر من ثلاثة أشهر، في ظل تناقص احتياطيات العملات الأجنبية، لمنع نزولها إلى ما دون 17.5 مليار دولار.
-لا سقف لارتفاع أسعار السّلع
إذاً يستعدّ اللبنانيون لمرحلة مفتوحة على كل الاحتمالات، لا سقف لارتفاع أسعار سلع حيوية من البنزين والدّواء وربطة الخبز، والأرقام التي تتسرّب عن المرحلة المقبلة مخيفة، إذ يتوقّع خبراء اقتصاديّون أنّ يتخطّى سعر صفيحة البنزين خلال أسابيع الـ75 ألف ليرة، بينما يتخطّى سعر ربطة الخبز الخمسة آلاف، وهي أسعار مرشحة للارتفاع، مع توقّع ارتفاع سعر صرف الدّولار بفعل تناقص احتياطي العملات الأجنبية في مصرف لبنان.
الصحافي المتابع للشأن الاقتصادي حسين نور الدين، يشير في اتصال مع “أحوال”، إلى أنّ ما يتمّ تداوله اليوم، يؤكّد ما قاله سابقاً وزير الطاقة ريمون غجر لـ”بلومبيرغ” قبل نحو شهر، ورد فيه نفس المضمون أنّ مصرف لبنان لن يستطيع الإبقاء على دعم السّلع وخصوصاً السلع الأساسية… الموضوع يطرحان سؤالان أولاً ماذا يعني هذا الأمر بالنّسبة إلى المستهلك، وأي احتياطي من العملات الأجنبيّة نملك؟
يقول نور الدين إنّه “من سنة 2019 وفي شهر أيلول، قالت وكالات تصنيف عالميّة إنّ لبنان لديه احتياط سالب ناقص أربعين مليار دولار، ثم عادت وكالات التّصنيف الإئتمانيّة العالميّة وتحدّثت عن الأموال الممكن استخدامها، والبعض رجّح وقتها أن تكون هذه الأموال بين 9 إلى 16 مليار دولار، ولكن أحداً لم يتحدّث عن مصدر هذه الأموال، هذه أموال من؟”.
ويشير نور الدين إلى أنّه “يجب على اللبنانيين أن يعرفوا أنّ هذه الأموال التي يقول مصرف لبنان إنّها احتياطي لديه، هي أموال المودعين. هي ما تبقى من دولارات كانت البنوك تضعها ضمن قانون الاحتياط الإلزامي لكن بالدولار. أو هي ودائع من قبل البنوك في مصرف لبنان. هذه الأموال هي أموال المودعين بفعل الفجوة الكبيرة في تمويل العجز في الموازنة وتمويل خدمة الدّين العام التي هي بالدولار وفوائد اليوروبوند. وقد تبخّرت أموال المودعين بالدّولار وما تبقّى منها بالليرة يمكن طباعته، وخسر قدراً كبيراً من القيمة الشرائية.”.
– لماذا يضع مصرف لبنان سقفاً أدنى 17,5 مليار دولار؟
ويلفت نور الدين إلى أنّ المودع وضع أمواله في البنك عندما كان الدّولار بـ1500 ليرة، وكان يأخذ فوائد 12 بالمئة، اليوم يسحب هذه الأموال بعد أن تدهورت الليرة وبات سعر صرف الدّولار 7 آلاف ليرة في بلد مستورد كل شيء، ما يعاود طرح الموضوع نفسه أي احتياطي نقدي يملك مصرف لبنان؟ لماذا يضع سقفاً أدنى 17,5 مليار دولار؟ ماذا يعني هذا الرقم؟ لماذا يستخدم هذا الرقم؟ إذا كنا بحاجة إلى طحين وأصبح لدينا أزمة جوع وفقر وعوز، هل سيحصل الطحين والدّواء على دعم من الـ17.5 مليار أم لا؟ يقول نور الدين “واجب أن يحصل على دعم، ولكن ما يحصل اليوم من دعم الوقود ليس أمراً سليماً لأنّه يؤدّي إلى عمليات احتيال من قبل التجار واستفادتهم من الدعم وهذا الدعم غير موجه بشكل سليم إلى الطلبات المعوزة”.
ويضرب مثالاً عن شركة لا تزال تمارس عملاً في لبنان وتمتلك أسطولاً من السيّارات والشّاحنات وهي ناشطة ولا تزال في وضع اقتصادي سليم، هي تستفيد من هذا الدّعم كما يستفيد منه سائق تاكسي يخرج كل نهاره لجمع عشرين ألف ليرة، ما يؤكّد أنّ ثمة تفاوت وعدم عدالة بموضوع الدعم.
ما هي الحلول المطروحة ليستفيد من الدعم من يستحقه فحسب؟ يقول “الحل يكون بتحديد كوبونات للعائلات المعوزة، إضافة إلى البطاقة الذكية لصرف البنزين بحيث أنه يحق لكل شخص كوتا شهرية على السعر المدعوم وعندما يتخطى هذه الكوتا لا يعود البنزين مدعوماً. يجب ألا نستمر بسياسة الدّعم بهذا الشّكل على الوقود والعديد من البضائع. ولكن الطحين والدواء يجب دعمها بطريقة ممسوكة جداً”.
-ماذا يعني رفع الدّعم عن السّلع الأساسيّة؟
يعيش اللبنانيون اليوم خوفاً من تداعيات قرار كهذا على ما تبقّى من قدرتهم الشرائية، خصوصاً مع السيناريوهات السوداء التي بدأت تتكشّف على شكل ارتفاع خانق في الأسعار، وسط عجز الدولة والهيئات الرقابية عن ضبط جشع التجّار، إلا أنّ المسألة اليوم لم تعد مجرّد جشع التجار فحسب، يقول نور الدّين
“تصريح رسمي عن نيّة مصرف لبنان التوقّف عن دعم السّلع الأساسية، سينعكس على سعر الصّرف. بالتّأكيد سيرتفع سعر الصرف أي أن الليرة ستتدهور قيمتها أكثر، وأصلاً عند مستويات احتياط من هذا النوع من الصعوبة جدا تقدير سعر الليرة خصوصاً أنّ مصرف لبنان يقول إنّه لا يريد أن ينزل الاحتياط إلى ما دون الـ17,5 مليار دولار، والسؤال يطرح من أين نؤمن التجارة الخارجية بعيداً عن موضوع السلع المدعومة؟ بقية السلع غير المدعومة كيف نؤمّن استيرادها ومن أين نأتي بالدولار؟”.
في الاقتصاد اللبناني اليوم ثمّة دولارات في المنازل تقدّر بين 3 إلى 4 مليار دولار، إلا أنّ هذه الدولارات لن تخرج إلى السّوق لأنّ لا ثقة في الاقتصاد. فكيف نجعل هذه الدولارت تنضم إلى الحركة الاقتصادية؟ يقول نور الدين “يتمّ ذلك عبر رفع سعر الصرف وإغراء المواطنين ليقوموا ببيع ما لديهم من دولار، أما الليرة التي يشترى بها الدولار فهي طباعة من المصرف المركزي… هي دوامة مترابطة تؤثر على كل مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية وعلى الجانب النقدي”.
-لا سقف لارتفاع سعر صرف الدولار
بعيداً عن الدولارات الموجودة في البيوت، من أين يمكن أن تأتي موارد الدولار إلى لبنان؟ يشير نور الدين إلى أنّنا خلال الصّيف رأينا ثمّة تسهيل للرحلات بعد فتح المطار، ودخلت دولارات مع المغتربين وتمّ سحب هذه الدولارات أو بعضها للاستهلاك المحلي على أسعار 7 آلاف ليرة، وقد لمسنا انخفاضاً في سعر الصرف، إلا أنّ الصرّافين الذين سحبوا الدولار على سعر 7 آلاف في ظل التصريحات عن تناقص احتياطي المصرف، سيقومون ببيعه على سعر قد يفوق الـ15 ألف وهذا احتمال وارد.
ويرى أنّه لا سقف لسعر الصرف، وأننا لم نعد في مكان سهل بتاتاً “الاقتصاد يتراجع ليس من موارد دولارات، وحتى ما تضخّه المساعدات الخارجيّة غير كافٍ لأنّ المساعدات أصلاً تأتي مساعدات عينية وهي مساعدات متواضعة”.
ويعطي مثالاً عن حجم التبرعات الضئيل، بريطانيا الأمبراطورية العظمى التي كانت لا تغيب عنها الشمس، تبرّعت بـ 5 ملايين جنيه استرليني فقط وهو مبلغ يمكن لأي رجل أعمال أن يتبرّع به.
وعن حاجة الاقتصاد اللبناني يقول “هي أكبر بكثير من هذه الأموال. نحن كان لدينا استيراد ما قبل الـ2020 بنحو 20 مليار دولار، وتصدير بنحو ملياري دولار، ولدينا حاجة للعملات الأجنبية بـ18 مليار. ولنفرض أنّه هذا العام انخفض الاستيراد بسبب انخفاض الاستهلاك مع انخفاض القدرة الشرائية بسبب تدهور العملة وتآكل الأجور والرواتب، سنذهب إلى استيراد بنحو عشر مليارات دولار، ما يعني أنّنا بحاجة يومية إلى مبالغ من العملة الأجنبية لا أحد يبحث عن مصدرها، يومياً لدينا حاجة إلى 27 مليون دولار على حجم استيراد 10 مليارات دولار. لدينا فيول ومحروقات بـ 4 مليار. الشعب يستهلك ملابس ومأكل ودواء وبقية الأمور بستة مليارات فقط بوقت كان يستهلك قبل 16 مليارات، يضاف إليها 4 مليارات فيول، يعني الكهرباء قد لا نستطيع تأمينها وهذا ما شاهده اللبنانيون من انقطاع الكهرباء”.
أنّ انقطاع الكهرباء الذي عانى منه اللبنانيون قبل الانفجار لم يكن سببه عطلاً تقنياً، بل هو كما يراه نور الدين مرتبط بالاعتمادات المتوفّرة لشراء الفيول لمعامل الكهرباء، إذ تمّ ضخ الدولارات في السوق لتهدئة سعر الصرف، عندما نزل الناس إلى الشارع بعد أن لامس الدولار العشرة آلاف ليرة، فوجدوا أنّ الشارع لا يحمل سعر الصرف هذا، فكان قرار خفض سعر الدولار من خلال ضخ الدولارات لدى الصرافين لتهدئة الجو العام على حساب شراء الفيول لأنّ الناس تأقلمت مع انقطاع الكهرباء، فكان القرار تقليل شراء الفيول وتخفيض النفقات كي لا تفلت الأمور أمنياً.
ويشير نور الدين إلى أنّ الإعلان عن رفع الدعم ليس غريباً، لأنّه في آخر تصريحات لحاكم مصرف لبنان منذ 4 اشهر تحدث عن احتياطي 20 مليار دولار، ولم يصرّح عن مصدر الأموال وهي أموال المودعين، هذا كان منذ 4 أشهر ونحن لا زلنا نستورد ولم نتحوّل إلى بلد منتج، ما يعني أنّ الاحتياطي تناقص، وحتى واقعاً الرقم الجديد ليس منطقياً، ويختتم قائلاً “الصراع المقبل سيكون على الدولار الداخلي، الدولار في المنازل سيكون موضع الصراع”.
المصدر: احوال ميديا_ ايمان ابراهيم
**