من دون سابق إنذار، يدخل كورونا التاريخ ويرسم ملامحه ويضع له حدوداً فاصلة، ما بعده يختلف عما قبله، والعالم بدأ يتغيّر وبقوة مفاجئة وحاسمة وقاهرة، فانقلبت المعادلات والموازين وناقوس خطر لا بل جرس إنذار بدأ يُطرق، هل يصحو العالم من غفوته ويلملم أوراقه القديمة ليعاد كتابة التاريخ من جديد؟
إنها مرحلة تغيير جذري وقسري وليست إعادة تقييم، هي فاصلة عنوانها كنس لحاضر مأساوي وبداية غد جديد، وعودة الى الذات وترتيب الأولويات في المجتمعات والدول، وإعادة بناء لعالم جديد ومختلف.
إنها نهاية حتمية لمرحلة الرأسمالية المتوحشة، وعودة الى القيم الإنسانية، إنها عبرة لمن يعتبر.
لقد بسط كورونا، قاضي البشرية جمعاء حكمه، معتقلاً إياها لإنتهاكها جرماً بحق مجتمعاتها بخروجها عن القواعد القانونية والإجتماعية والمجتمعية، فأصدر حكمين لا بديل عنهما الإعدام أو الحجر التحفظي حتى الشفاء الكامل. وعجز الأطباء عن تخفيف حكم الإعدام في بعض الدول إلا أن دولاً أخرى بفعل العدالة الإلهية ربما تمكنت من تخفيفه تدريجياً.
جرثومة أقوى من حلف النّاتو. تفتك برؤساء دول ورؤساء حكومات ووزراء ونواب وأصحاب سموّ مَلَكي وأُمَراء محدثة رعباً وخراباً لم يُحدثه أي وباء آخر في تاريخ البشرية، متنقلة بين الأقطار وحاصدة الضحايا في الأرواح والخسائر في الاقتصاديات، والكلّ منخرط بالمواجهة لدرء هذا الوباء الذي سجل عالمياً حتى تاريخ كتابة المقال أكثر من 723,434 إصابة، تعافى منها 151,809 حالة في حين إرتفعت الوفيات الى 33,997 حالة وفاة.
في غضون أيام قليلة، أُغلِقت الحدود بين الدّول، والأسواق العالمية أُربِكَت، مسجلة خسائر فادحة في النقل والسياحة والتجارة والأسواق المالية ما دفع صندوق النقد الدولي الى إطلاق صفارة الإنذار من ركود اقتصادي عالمي أسوأ من الركود الذي شهده العالم عقب الأزمة المالية عام 2008، حيث ستعلن مصارف إفلاسها وشركات عملاقة ستقفل أبوابها والبطالة ستستشري، والمنظومة الليبرالية التي حكمت العالم بعد الحرب الكونية الثانية ستسقط أمام جبروت هذا الفيروس الذي لا يُرى بالعين المجردة، ما يعني سقوط القرية الكونية والعولمة التي أبعدت العالم عن التقاليد الاجتماعية والمجتمعية مجردة إياه من مظاهر الألفة والمحبة وكيفية التعامل مع الآخر، محولة إياه إلى آلة تعمل ليلاً نهاراً ليتمكن من السير في ركب الرفاهية المصطنعة التي لا حياة فيها ولا روح.
وبالرغم من أن العالم أصبح مقبرة جماعيّة (إيطاليا لوحدها مقبرة العالَم ألف وَفاة في يومٍ واحِد)، والمدن التي كانت لا تنام كنيويورك ولاس فيغاس وغيرها أصبحت مدن الأشباح، لا حياة فيها، والكنائس ودور العبادة أفرغت من مصليها وعبادها، فإن كورونا أعاد العالم الى كنف العائلة وحب الآخر، فالأولاد عادوا الى أحضان ذويهم يشاركونهم أفكارهم وأفراحهم رغم الحجر المنزلي القسري، كما أن الكثير منهم عاد الى العادات والتقاليد القديمة التي نشأوا عليها وإن كانت مطعمة بالتكنولوجيا الرقمية.
كورونا، أو covid – 19، جرثومة أقوى من حلف الناتو، أظهرت هشاشتنا وهزالتنا وشح مواردنا في وقت كانت تدفع فيه الدول الكبرى آلاف مليارات الدولارات لصناعة الأسلحة الفتاكة ها هي اليوم تعجز أمام عظمة هذه الجائحة في إيجاد اللقاح أو الدواء الناجع الذي سينقذ البشرية من براثن هذا الفيروس.
من هنا وبعد أن توحّد العالم في مصيبته المستجدة كورونا لا بدّ من دعوة كافة الدول إلى إعادة صياغة سياستها واضعة نصب أعينها السياسة الصحية وليس السياسة السائدة التي تفرّق العالم فيما بينها والتي تعمل وفق سياسة “فرق تسد”، بل العمل وفق سياسة تتحلّى بأمرين: ضمير حيّ وذاكرة جيدّة، الأوَّل لنحكم من أجل الإنسان لا لإجله، والثاني أن نأخذ من تاريخ الأوبئة التي عصفت بالعالم عبرة.
لعل ما جرى خلال المئة عام المنصرمة من تحدي الإنسان للطبيعة ولخالق الكون عبر استحداث الكثير من المتغيرات للحياة البشرية والطبيعة المكونة بدقة متناهية وتحدي الإنسان لقوة الجاذبية والخروج للكواكب والمجرات، وأيضاً تطوير طريقة التواصل والإتصال حتى أصبح الكون قرية يتنادى أهلها ويتواصلون بأسهل الطرق، كان السبب في ظهور هذا الوباء الذي جاء ليعلن للبشر وقادة هذا العالم استسلامهم لمشيئة الله خالق هذا الكون، وانتظارهم لحدث ما يخلص الشعوب من هذا الوباء الذي وصل الى جميع أصقاع الأرض، حدث يعلن أن العالم مقبل على تغيير تام بكل أفكاره ومؤسساته العملية والنظرية، والأهم من كل ذلك قيمه السياسية والإنسانية والإجتماعية والنفسية والأخلاقية.
العد التنازلي بدأ والعالم يمضي وهو مكشوف بكل تخبّطه وظلمه، ليبدأ عالم جديد يضع القيم الإنسانية فوق كل إعتبار.