كشفت محاولة اغتيال وزير شؤون النازحين صالح الغريب في منطقة الشحار الغربي واستشهاد اثنين من مرافقيه عن سابقة خطيرة في الجبل يعلن من خلالها الطرف المسؤول عن الجريمة البشعة سقفاً سياسياً لما جرى، بعدما كان الكلام سابقاً عن توصيف ما يجري بالحادثة، سواء في حادثة الشويفات او حتى في “غزوةالجاهلية” ،لكن ما شهدناه أثناء محاولة وزير الخارجية والمغتربين جبران باسيل زيارة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز الشيخ نصرالدين الغريب في كفرمتى هو موعد مع إعلان سياسي واضح للوزير أكرم شهيب وأن كان يتنوّع في تعابيره لكنه قدّم للبنانيين وجبة سياسية واضحة عنوانها، أن الدخول إلى الجبل يتم بالتنسيق مع الحزب التقدمي الاشتراكي وإلا فهو مستعد لاشعال نار قد يحترق بها مَن يعارض الأحادية الجنبلاطية من أبناء الجبل.
هذا الكلام الذي تردد بمفردات مختلفة على لسان شهيب هو اعلان واضح عن سقوط هيبة الدولة، بصرف النظر عن تأييدنا خطاب الوزير باسيل أو معارضته، والذي اتخذه شهيب سبباً لتسخين الشارع الجنبلاطي تمهيدا لإطلاق خطاب انعزالي يشبه بصورة أو بأخرى جوهر خطاب “ولاية” الحدث عن تشريعات خاصة لشروط التملك والإيجار.
منذ مدة يعبّر النائب السابق وليد جنبلاط عن محاولات يمارسها البعض لتحجيمه على مستوى تركيبة الدولة ومؤسساتها بعد التسوية الرئاسية التي اوصلت الجنرال ميشال عون إلى قصر بعبدا والانتخابات النيابية الأخيرة التي حصل فيها الوزير وئام وهاب على أصوات تفضيلية تفوق بكثير نسبة الأصوات التي نالها مروان حمادة وبالتالي سقوطه انتخابيا لولا تدخل بعض الحلفاء في اللحظات الاخيرة لمصلحة المرشح الجنبلاطي؛ الى جانب فوز عدد من أعضاء كتلة “ضمانة الجبل” برئاسة الوزير طلال أرسلان والتي خلقت نوعا من الحيوية على مستوى العمل السياسي العابر للطوائف في مناطق وقرى الجبل.
كل ذلك أزعج جنبلاط وبدأ يشعر بتضاؤل حجم حضوره، وخسارته التدريجية لمواقع طالما كانت فوق النقاش في التعيينات والتشكيلات القضائية والأمنية، فهو كان يضع تحت جناحه حصة طائفة المعروفيين التوحيديين دون شراكة أو منافسة من احد، ولكن هذا يبدو أنه لن يبقى في ظل التمدد التنظيمي والشعبي للحزب الديمقراطي والتوحيد العربي في مناطق الشوف وعاليه والمتن وحاصبيا وراشيا، ونضيف إليها نسبة كبيرة من حضور التيار الوطني الحر في قضاءي الشوف وعاليه ، ونسبة موازية من حضور تيار المستقبل في الشوف، ويبدو أن هذا كله بات معرضاً لإعادة النظر وفق المعايير الجنبلاطية على أثر اهتزاز التوازن الدرزي-المسيحي الذي كان محكوما في السابق بعلاقة سطوة القرار الجنبلاطي كسقف لمعادلة الجبل الأمر الذي ولّد حالة من الاحتقان عند زعيم المختارة سرعان ما انسحبت على تركيبة البيت الدرزي سياسياً.
من الواضح أن جنبلاط أراد توجيه الرسائل الغاضبة في كل اتجاه، حتى حدث ما حدث في كفرمتى من جريمة بربرية جاءت على خلفية متغيّرات شهدتها المنطقة خسر خلالها الحلف الأميركي – العربي-التركي-الخليجي والذي راهن عليه وشارك فيه جنبلاط أهم معاركه التي كانت سورية مسرحاً لها، وكانت مساهمة جنبلاط فيها رئيسية سواء بالخطاب أو بالتحالفات أو بمحاولات تطويع دروز سورية على أيدي “داعش” و “جبهة النصرة” وجذبهم لخيارات بعيدة عن دولتهم. لذلك كان الفشل ثقيلاً في تأثيره على التوازنات اللبنانية الداخلية التي يشكل حلف الرابحين فيها الكتلة الوازنة للحكم، خصوصاً ثنائي التيار الوطني الحر وحزب الله، وهما حليفا أرسلان – وهاب خصوم جنبلاط في الطائفة الدرزية ، كما قالت تجربة تشكيل الحكومة.
إن رهان جنبلاط على تشكيل حلف داخلي ممانع يحمي امتيازاته و مكتسباته ويضم الشريكين التقليديين، تيار المستقبل والقوات اللبنانية، اصطدم بعدم رغبة رئيس تيار المستقبل ورئيس الحكومة سعد الحريري للمجازفة الجنبلاطية وارتضائه لما تتيحه التسوية من مكتسبات يضمنها بقاؤه رئيساً للحكومة، عدا كون الحريري وسمير جعجع لا يستطيعان التسليم لجنبلاط بما يريده في الطائفتين السنية والمسيحية فبقيت صرخته وحيدة، وتحوّلت إلى مشاغبة سياسية وها هي تنفجر في الجبل أمنياً، مع العلم وإن كان الكلام السياسي المقال يُعفي من البحث في الروايات المتداولة حول إطلاق النار، الذي تبقى متابعته قضائياً ضرورية، لكن لا بد من الأخذ بالاعتبار أن الكلام السياسي له معنى كبير قضائياً.
واذا كان المساعي الحميدة لرئيس مجلس النواب نبيه بري قد نجحت في ربط النزاع على مستوى العلاقة بين حزب الله والاشتراكي ،ومن ثم رأب الصدع في العلاقة التي اهتزت بين الاشتراكي و تيار المستقبل؛ لكن سرعان ما انفجرت مع ثنائي التيار الوطني الحر والحزب الديمقراطي اللبناني والتوحيد العربي، حيث تصعب الوساطات، وحيث المسرح الرئيسي للإجابة عن سؤال، هل بالإمكان تثبيت معادلة “البوابة الجنبلاطية الإلزامية في الجبل أمام المسيحيين والسنة والشيعة والدروز، تحت طائلة العقاب؟ وهل يمكن التخلي عن مشروع الدولة إلى هذا الحد ؟ وهل يمكن لتسوية أن تحتضن الحدّ الممكن من التنازلات المتبادلة دون الوقوع في أحد المحظورين، تفكيك الدولة أو الوقوع في شرك الحرب الأهلية؟
الأكيد أن الحرب الداخلية أصبحت من المحرمات ليس لأن البعض لا يريدها وإنما بسبب موازين القوى التي لا تسمح حتى مجرد التفكير باللعب بنارها الملتهبة، ولو كانت المنطقة الواقفة على قنابل موقوتة تفتش عن حريق لبناني يمكن توظيفه بوجه حزب الله، لكن الأكيد أن مجرد التفكير بأداء هذا الدور وجر البلاد إلى اتون النار هو أمر مستبعَد لأن كافة الأطراف السياسية تقرأ وتفهم جيدا المعادلات والتوازنات، وبالتالي يصير الجواب الوحيد هو السؤال، أليست خريطة اتفاق الطائف بالذهاب لمجلس نيابي خارج القيد الطائفي ومجلس للشيوخ يمثل الطوائف، يجري التفاهم على تفاصيله ورئاسته، مخرجاً مناسباً للجميع؟
**