خرج لبنان من الحرب الأهلية في حال إقتصادية ومالية يُرثى لها حيث أنها قضت على كل البنى التحتية التي كان يتمتّع بها لبنان وإنخفض الناتج المحلّي الإجمالي إلى أكثر من النصف. وعاش لبنان خلال فترة الحرب وما بعدها تجربتين (في العام 1983 والعام 1991) أقلّ ما يُمكن القول عنهما أنهما قمّة الإذلال للمواطن اللبناني حيث إنهارت قيمة الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي وخسر العديد من المواطنين من قيمة مدّخراتهم وثرواتهم. والأصعب في الأمر أن المصرف المركزي أنذاك وقف مُتفرّجًا على إنهيار الليرة دون أن يكون هناك أي تدّخل في سوق القطع مع العلم أن المادة 70 من قانون النقد والتسليف تُعطي المصرف المركزي مهمة الدفاع عن النقد الوطني. في الواقع لا يُمكن إلقاء اللوم على المصرف المركزي الذي كان إحتياطه لا يتعدّى بضع مئات ملايين الدولارات وبالتالي كان أعجز من أن يدخل في سوق القطع ومواجهة المضاربين.
إستلم سلامة سدّة الحاكمية في العام 1993، وبعد تقييمه الأوضاع الاقتصادية، المالية والنقدية، خرج بعدد من الإستنتاجات حدّدت وجه السياسة النقدية التي سيتبعها لاحقًا:
أولاً ـ هناك إستحالة النهوض بإقتصاد عملته تتدهور بشكل عشوائي بحكم أنه لا يوجد مستثمر يقبل بالإستثمار في إقتصاد عملته تتدهور؛
ثانيًا ـ هناك إستحالة لتمويل الإقتصاد بأسعار فائدة خيالية نظرًا إلى أن الكلفة العالية تمنع الإستثمار؛
ثالثًا ـ تمويل الاقتصاد يتطلّب قطاعاً مصرفياً يمتلك القدرات المالية؛
رابعًا ـ التخبّط السياسي هو عامل سلبي على الليرة اللبنانية وبيئة الإستثمار.
هذه الإستنتاجات دفعت بالحاكم إلى وضع سياسية نقدية عمادها الثبات النقدي الذي يُحدّد بالعناصر التالية:
أولا ـ سعر صرف ليرة ثابت لا يتأثر بالعوامل الاقتصادية والمالية والسياسية (المُتردّية أنذاك)؛
ثانيًا ـ سعر فائدة ثابت ومُنخفض إلى حدٍ ما لكي يستطيع القطاع الخاص الإقتراض بهدف الإستثمار والإستهلاك وتثبيت كلفة هذا الإقتراض؛
ثالثًا ـ قطاع مصرفي يمتلك قدرة مالية ومُنفتح على الأسواق العالمية لزيادة قدرته الإقتراضية، مما يعني حكمًا قطاعاً مصرفياً يستوفي أعلى المعايير العالمية.
لكن تطبيق سياسة الثبات النقدي واجهه صعوبات جمّة يُمكن ذكر عدد منها: الوضع الإقتصادي الصعب مع إنتهاء الحرب الأهلية، نسبة التضخمّ العالية أنذاك، ضعف الثقة بالقطاع المصرفي الذي كان غير منُظّم، ضعف إحتياطي المركزي من العملات الأجنبية#0236 هذه الأمور أظهرت صعوبة وضع سياسة ثبات نقدي على الآمد القصير، المُتوسطّ والبعيد.
عمد حاكم مصرف لبنان بعد تحديده أسس سياسته النقدية إلى العمل على ثلاثة محاور:
أولا ـ حدّد هامشاً لسعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي وذلك بهدف المحافظة على مُمتلكات اللاعبين الإقتصاديين؛
ثانيًا ـ ثبّت أسعار الفائدة ورشّدها وذلك بهدف تثبيت تمويل الماكينة الإقتصادية؛
ثالثًا ـ نظّم القطاع المصرفي ودمجه في المنظومة المالية العالمية وذلك لتأمين التمويل الخارجي ولكن أيضًا لفتح المجال للتجارة الدولية مع لبنان.
وللقيام بهذا الأمر إستخدم الدكتور رياض سلامة الأدوات النقدية التقليدية والتي تتمثّل بثلاثة وسائل أساسية: (1) دوّزنة الإحتياطات الإلزامية للمصارف التجارية في مصرف لبنان، (2) دوزنة أسعار الفائدة، و(3) دوزنة قيمة الكتلة النقدية في الأسواق عبر عمليات تُسمّى Open Market.
بالطبع إستخدام هذه الأدوات يختلف بحسب الدوّرة الاقتصادية، مثلا إذا كان هناك تضخّم في الأسواق، كان سلامة يرفع الإحتياطات الإلزامية و/أو يزيد سعر الفائدة و/أو يمتص السيولة في الأسواق (سياسة تقييدية).
خلال كل هذه الفترة كان لبنان يعيش تخبّطًا سياسيًا نتيجة الخلافات الداخلية وأمنيًا نتيجة الإعتداءات الإسرائيلية، وبالتالي أخذت الماكينة الاقتصادية بالتآكل وإزداد معه عجز الموازنة وعجز الميزان التجاري وعجز ميزان المدفوعات. هذا الواقع الجديد فرض على الحاكم رياض سلامة إعادة النظر في الأدوات التي يستخدمها لضمان الثبات النقدي، فالأدوات النقدية التقليدية لم تعد كافية ولم تعد تسمح بضمان نجاح السياسة النقدية التي يقودها. والأصعب أن العودة إلى الوراء كان سيكون كارثيًا. خيار حاكم مصرف لبنان سلامة لأدوات جديدة للإستمرار بسياسته النقدية لم يكن خيار بالفعل بل كان إلزاميًا على رياض سلامة إيجاد وسائل أخرى.
اللواء رياض سلامة، وهو من أتباع المدرسة الكينزية، كان يرى في الإجراءات الإحترازية خطوة مُهمّة لتدعيم سياسته النقدية. وعلى هذا الصعيد، تعرض النظرية الإقتصادية عدداً محدوداً من الأدوات التي تُصنّف «غير نقدية» بحكم أنها لا تدخل في الوسائل التقليدية ولكنها مالية بإمتياز (هناك أكثر من 11 إجراء). وعلى رأس هذه الأدوات يُمكن ذكر:
أولا ـ إجراءات قانونية بهدف تثبيت الإقتصاد وذلك من خلال تخفيف المخاطر من وجهة نظر نقدية مثلا رفع سيولة الإحتياطات الإلزامية. هذا الأمر هو إجراء قامت به العديد من المصارف العالمية ولكن فعّالية التطبيق في لبنان كان لها الفضّل الأول في زيادة الثقة بالقطاع المصرفي الذي تحوّل إلى مركز مالي من أهمّ المراكز المالية العالمية؛
ثانيًا ـ إجراءات لضمان التمويل مثل تحديد نسبة القروض إلى القيمة، وضع سقف لنسبة القروض المُتعثّرة قبل تدخّل المصرف المركزي، تحديد نسبة خدمة الدين للاعب الإقتصاد… كل هذا لضمان ملاءة المُقترض والمُقرض.
ثالثًا ـ تحصين ميزانية المصارف عبر رفع السيولة، الإحتياطات الإلزامية، تحديد وجهات إستثمار المصارف، وإلتزام المصارف بالمعايير الدوّلية مثل معيار بازل والـ IFRS9 وغيرها من المعايير التي زادت من ثقة الأسواق العالمية بالقطاع المصرفي. على هذا الصعيد، نرى أن المصارف اللبنانية تدّخل في تصنيف أفضل أول 1000 مصرف في العالم.
رابعًا ـ تدعيم تدفقات رؤوس الأموال خصوصًا الداخلة إلى لبنان وهي بالعملة الصعبة مما يسمح بتمويل الإقتصاد ولكن أيضًا يدعم الليرة اللبنانية من خلال تخفيض عجز ميزان المدفوعات.
خامسًا ـ فرض على المصارف اللبنانية إحترام القوانين العالمية مثل قوانين مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب.
هذه الإجراءات قام بها الحاكم رياض سلامة بالإضافة إلى الأدوات التقليدية التي لم ينقطعّ يومًا عن تطبيقها، لكن غياب السياسات الاقتصادية للدولة والأحداث الأمنية والسياسية التي عصفت بلبنان، دفعت بالميزان التجاري إلى تسجيل عجز مُزمن كانت نتائجه كارثية على تصنيف الدوّلة الإئتماني وزاد من الضغوطات على الليرة اللبنانية.
الثبات النقدي، في ظل غياب ماكينة إقتصادية متآكلة ومالية عامّة مُذرية، مُتعلّق بقدرة الدوّلة على تأمين العملة الصعبة، هذا ما تقوله النظرية الإقتصادية. هذا الأمر فهمه الحاكم رياض سلامة وأبدّع فيه من خلال هندساته المالية التي إستطاعت جذب عشرات مليارات الدولارات إلى لبنان. وهذا الإنجاز دفع بصندوق النقد الدولي إلى تهنئة رياض سلامة عليه ومصرف جي بي مورغان، أحد أكبر المصارف العالمية (رأسماله 3 تريليون دولار أميركي) إلى تكريم الحاكم رياض سلامة على إنجازاته إضافة وحصد لقب أفضل حاكم مركزي في العالم عدّة مرات.
الهندسات المالية تُثير جنون العديد من الدوّل والأفراد. فعلى الصعيد الإقليمي رأت الدوّل المجاورة ونتيجة حاجاتها إلى العمّلة الصعبة، في شخص الحاكم رياض سلامة منافساً شرساً على العملة الصعبة.
أمّا على الصعيد الداخلي وبسبب عدم قدرة الإقتصاديين على فهم تركيبة الهندسات المالية التي يقوم بها الحاكم سلامة، قام العديد منهم مدعومين بإعلام مأجور إلى مهاجمة الحاكم سلامة وإتهامه بأنه السبب وراء تراكم الدين العام وأنه يأخذ من مال الدوّلة ويُعطي المصارف هذه الأموال.
بالطبع هذه الإتهامات تنمّ عن عدم الوضوح لأن مصرف لبنان وبحسب المادة 13 من قانون النقد والتسليف هو مؤسسة مُستقلّة إداريًا وماليًا عن الدوّلة اللبنانية، وبالتالي، فإن أموال مصرف لبنان مفصولة كلّيًّا عن أموال الدوّلة اللبنانية. وقرارات الصرف تعود حصريًا إلى المجلس المركزي وليس للحكومة اللبنانية. وفي المقابل، لا سلّطة لمصرف لبنان ولا لمجلسه المركزي ولا لحاكمه على أموال الدوّلة التي تخضع حصريًا لسلطة وزارة المال ومن خلفها مجلس الوزراء مُجتمعًا.
لذا من غير المعقول القول إن تراكم الدين العام مسؤول عنه مصرف لبنان وأن الهندسات المالية تُحمّل الدوّلة أعباء مالية. لا بل على العكس، إستطاع الحاكم رياض سلامة من خلال هندسته المالية في العام 2016 من تخفيض خدمة الدين العام على الدوّلة عبر إقراضها أموال بفائدة 1% وحمى الليرة اللبنانية ودعم القطاع المصرفي (الفقرة الثالثة من المادة 70 من قانون النقد والتسليف)، وجعل ميزان المدفوعات إيجابي بعدما كان يُسجّل عجزًا بقيمة 3.34 مليار دولار أميركي وبالتالي حمى تصنيف الدوّلة الإئتماني من ضربات وكالات التصنيف العالمية.
بالتوازي لم يغب عن سلامة الشق الإجتماعي، إذ قام بدعم القروض السكنية بشكل ملحوظ وذلك منذ العام 2013 مما سمح للعديد من ذوي الدخل المحدود من الإقتراض بهدف تملّك شقّة. وبلغت قيمة هذا الدعم أيضًا مليارات الدولارات منذ العام 2013 وحتى يومنا هذا وبالتالي يظهر أن سلامة قام بإجراءات ذات طابع إجتماعي هي أصلا من مهام الحكومة، لكن نظرته الكينزية إلى الإقتصاد دفعته إلى دعم هذه القروض.
كما دعم قروض للقطاعات الإنتاجية بالتوازي مع دعمه القروض السكنية وإستطاع العديد من رواد الأعمال الإستفادة من هذه القروض. ولعل التعميم 331 الذي يدعم الإستثمارات التكنولوجية هو النجم لكن القطاعات السياحية، الزراعية، الصناعية، التربوية وغيرها حصلت على نصيبها من هذا الدعم الذي يستمرّ حتى يومنا هذا.
وكنتيجة لكل ما تقدّم إستطاع لبنان الصمود على الرغم من كل الزلازل التي عصفت به من عناقيد الغضب، إغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، عدوان تموز 2006، أحداث 7 أيار، الفراغ الرئاسي، الأزمة السورية، النزوح السوري، المُقاطعة الخليجية، التفجيرات (2013 و2014)، الفراغ الرئاسي الثاني، إستقالة الحريري والفراغ الحكومي في عدة مراحل.
( موظفو مصرف لبنان أصحاب خبرة وكفاءة عاليتين )
ولا شك بأن موظفي مصرف لبنان اصحاب شهادات وخبرة عاليتين ويتجاوزون اكثر من الف موظف لديهم خبرة كبيرة وبعيدون عن الطوائف ونجحوا في اعمالهم ومسؤولياتهم برئاسة الحكم وهم من خيرة الموظفين والمديرين والذين نجحوا في عملهم مع المصارف وعبر المصارف في نهضة لبنان وتطور اقتصادي.
نعم صمدت الليرة اللبنانية وحفظ 750 ألف لبناني يقبضون أجورهم بالليرة اللبنانية على أرزاقهم. وصمدت مالية الدوّلة على الرغم من الصرف على أساس القاعدة الإثني عشرية خلال 12 عامًا.
أيضًا كسب لبنان ثقة العالم المالي إذ أصبح من أهمّ المراكز المالية العالمية وتحوي بيروت على المقاصة الوحيدة بالدولار الأميركي الموجودة خارج الولايات المُتحدة الأميركية.
يقول أبو الفرج بن الجوزي:
عذيري من فتية بالعراق… قلوبهم بالجفا قلب
يرون العجيب كلام الغريب… وقول القريب فلا يعجب
ميازيبهم إن تندت بخير… إلى غير جيرانهم تقلب
وعذرهم عند توبيخه … مغنية الحي ما تطرب
التاريخ سيذكر ما قدّمه رياض سلامة للبنان!
المصدر” الديار – بروفسور جاسم عجاقة
**