رفعت واشنطن مستوى الضغوط التي تمارسها على إيران، وقرّرت وقف الإعفاءات التي قدّمتها سابقًا لثماني دول (الصين، الهند، اليابان، كوريا الجنوبية، تايوان، إيطاليا، اليونان، وتركيا) لشراء النفط الإيراني، ما يعني عمليًا تصفير صادرات النفط الإيرانية إلى الخارج لوضع طهران في الزاوية وهذا بالتحديد ما يسعى إليه الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وهو أمر كانت إيران قد هدّدت بأنها لن تسكت عنه في حال حصوله، وستردّ عليه بمنع الملاحة البحريّة للنفط في المياه الإقليميّة المحيطة بها. وقد إرتفعت حدّة التصاريح الأميركيّة والإيرانيّة المتبادلة خلال الساعات القليلة الماضية، إذ جاء التحدي الإيراني للقرار الأميركي سريعاً وحاسماً وليس فقط من ناحية التهديد بإغلاق هرمز، حيث أكّد مصدر إيراني أنه بغض النظر عن وجود أو اختفاء ما يعرف بالإعفاءات الأميركية “صادرات إيران من النفط لن يتم تصفيرها تحت أي ظرف من الظروف إلا بقرار سياسي إيراني بوقف صادرات النفط وهذا الأمر لا مجال له الآن”، خصوصاً وأنّ إيران تعتزم إجراء مناورات بحريّة جديدة تغطّي مساحة جغرافيّة واسعة، وتطال بجزء منها مضيق هرمز.
بالنسبة إلى الجانب الأميركي، الإدارة الأميركية جادة في سعيها لتضييق الحصار الإقتصادي والمالي المفروض على إيران، وفرض عقوبات على أيّ من الدول التي ستواصل شراء النفط الإيراني رغم قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب بوقف كل أنواع الإستثناءات السابقة، وتعمل واشنطن حاليًا على محاولة تعويض التراجع في عروضات المشتقات النفطيّة في الأسواق العالميّة عبر حثّ كل من المملكة العربيّة السعودية ودولة الإمارات العربيّة المتحدة على رفع حجم إنتاجها ومبيعاتها، في ظلّ إرتفاع ملحوظ للأسعار. وبالنسبة إلى الدول المَعنيّة بالقرار الأميركي، فإنّ بعضها سيلتزم حتمًا به، تجنّبًا لأيّ خلافات مع الولايات المتحدة الأميركيّة، على عكس بعض الدول الأخرى التي سترفض التقيّد بالقرار على الأرجح، ما سيُوثر حتمًا على العلاقات الثنائيّة لهذه الدول مع واشنطن.
أمّا بالنسبة إلى إيران فقد أكّد العديد من المسؤولين في الجمهوريّة الإسلامية الإيرانيّة أنّ طهران تعتبر القرارات الأميركيّة غير شرعيّة، وستواصل تصدير نفطها، وهدّدت بإغلاق مضيق هرمز في حال مُنعت من إستخدامه، وليست هذه المرة الأولى التي تهدد فيها إيران بإغلاق أهم شريان نفط في العالم على خلفية التصعيد الأميركي تجاه مصالح طهران، في وقت يعتقد خبراء أن مثل هذه التهديدات تبقى صعبة التنفيذ، لما لها من تأثيرات سلبية ضخمة على تجارة النفط بالعالم والمنطقة خاصة، وهو ما لن تقبل به واشنطن.
وسبق لإيران أن هددت بفرض قيود على المرور في المضيق إذا تعرضت للهجوم، وجاء ذلك على لسان قائد الحرس الثوري الإيراني وقتها محمد علي جعفري في حزيران 2008، كما هددت طهران مرة أخرى في كانون الثاني 2012 بإغلاق مضيق هرمز ردًّا على عقوبات أميركية وأوروبية استهدفت إيراداتها النفطية، وفي تموز 2018 لمح الرئيس الإيراني حسن روحاني إلى أن بلاده قد تعطل مرور النفط عبر مضيق هرمز ردًّا على دعوات أميركية لخفض صادرات إيران من الخام إلى الصفر.
وقال وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف إن على الولايات المتحدة أن تكون مستعدة للعواقب إذا حاولت منع طهران من بيع نفطها واستخدام مضيق هرمز، وجاء ذلك بعد دعوة أميركية لطهران إلى إبقاء مضيقي هرمز وباب المندب مفتوحين.
وهدد نائب قائد القوات البحرية الإيرانية التابعة للحرس الثوري الإيراني علي رضا تانكسيري بإغلاق مضيق هرمز ردًّا على قرار ترامب، قائلاً: “وفقا للقانون الدولي، مضيق هرمز هو ممر بحري وإذا منعنا من استخدامه، سنقوم بإغلاقه”.
وأكد أن إيران تراقب وتحلل جميع السيناريوهات والظروف الممكنة للنهوض بصادرات النفط، واتخذت التدابير اللازمة، من أجل مواجهة العقوبات الأميركية.
وسط هذه الأجواء، تُحضّر إيران لتنفيذ مناورات بحريّة ضخمة تقوم بها بشكل دوري والتي ستشارك فيها وحدات بحرية وجوية من روسيا أيضاً، لإستعراض قدراتها العسكريّة من جهة، ولتوجيه رسالة أمنيّة من جهة أخرى، مفادها بأنّها قادرة على إغلاق مضيق هرمز إذا دعت الحاجة، ولا شكّ أنّ هذه المناورات سترفع حدّة التوتّر الأمني في المنطقة، مع إحتمال وقوع إستفزازات أمنيّة مع الوحدات العسكريّة الأميركيّة الموجودة في المنطقة، وربّما إحتكاكات مباشرة طفيفة، ما قد يسبب بإشتباكات محدودة فيه، بشكل يوقف الملاحة تلقائيًا أو أقلّه بعرقلتها فيه، وعندها ستحدث أزمة عالميّة على مستوى توفّر المشتقات النفطيّة، وعلى مستوى أسعار بيعها أيضًا، ربما يكون الخاسر الأكبر في حال أقدمت طهران على إغلاق المضيق هي السعودية على أساس أن أغلبية صادراتها من النفط تمر عبر هرمز، وتوقف تلك الصادرات يعني كارثة على الاقتصاد السعودي بلا شك.
لذلك تسعى الإمارات والسعودية لإيجاد طرق أخرى لتفادي المرور بمضيق هرمز، بما في ذلك مد مزيد من خطوط أنابيب النفط، وبحسب بيانات وكالة الطاقة الدولية لعام 2016 فإن خطوط الأنابيب العاملة التي لا تمر بمضيق هرمز تشمل خط بترولاين (خط أنابيب شرق – غرب)، وهو خط سعودي عامل تبلغ طاقته الاستيعابية 4,8 مليون برميل يومياً، ويُستخدم منها بالفعل 1,9 مليون برميل يومياً بينما تبلغ طاقته غير المستغلة 2,9 مليون برميل يومياً، وخط أنابيب أبوظبي للنفط الخام وهو خط إماراتي عامل سعته 1,5 مليون برميل يومياً، يستخدم منها نصف مليون برميل، بينما تبلغ الطاقة غير المستغلة مليون برميل، إضافة لخط أبقيق – ينبع لسوائل الغاز الطبيعي، وهو خط سعودي عامل تبلغ طاقته الاستيعابية 300 ألف برميل يومياً، ومستغلة بالكامل.
ودون أدنى شك إن البحرية الإيرانية تمتلك القدرة على إغلاق المضيق، ولكن عملية اتخاذ القرار نفسه لن تكون بسيطة ولا يتوقع أن تكون متسرعة؛ لأن ذلك ليس له إلا معنى واحد وهو الحرب، والنظام الإيراني يدرك ذلك جيداً، ويدرك أن هذا ما يسعى إليه ترامب، ومن خلفه أعداء إيران في المنطقة، ما سيجلب تدخلاً سياسيًا دوليًا لإحتواء الأزمة في مهدها.
أهمية مضيق هرمز الإقتصادية
إشارة إلى أنّ مضيق هرمز الذي يبلغ عرضه 50 كيلومترًا وعمقه نحو 60 مترًا بمعدّل عام، يعتبر من بين أهمّ المَمرّات البحريّة في العالم أجمع، علمًا أنّه يستوعب مرور ما بين 20 إلى 30 ناقلة نفط يوميًا عبر مياهه نتيجة مرور نحو 40% من الإنتاج العالمي من النفط عبره، ما يوازي أيضاً 90 % من إجمالي صادرات النفط من الدول المطلة على الخليج العربي، بحيث تصدّر السعودية عبر مضيق هرمز 6 ملايين برميل يومياً ما يوازي 88 % من صادراتها النفطية، والعراق 16 مليون برميل يومياً أي ما نسبته 98% من صادراتهه النفطية، والإمارات العربية المتحدة 23 مليون برميل يومياً أي ما يوازي 99 % من صادراتها النفطية، الكويت 17 مليون برميل يومياً أي ما يساوي 100% من صادراتها النفطية وقطر 700 ألف برميل أي ما يساوي 100 % من قيمة صادراتها النفطية، كما بلغت صادرات إيران النفطية عبر المضيق 25 مليون برميل يومياً، 90 % منها يمر عبر مضيق هرمز حيث تعبر يومياً عشرات قافلات النفط التي تتجه بمعظمها نحو آسيا ودول أوروبا الغربية بحيث يستورد الإتحاد الأوروبي ما نسبته 18 %، والصين 22 %، واليابان 14 %، والهند 13 %، وكوريا الجنوبية 10 % بالإضافة الى عدد من الدول الآسيوية التي تعتمد على النفط الإيراني بنسب متفاوتة.
وعلى الرغم من أنّ الخطر يبقى قائمًا لجهة خروج أيّ إحتكاك أمني محتمل في مضيق هرمز عن السيطرة، فإنّ من المستبعد جدًا حصول مواجهة عسكريّة بحريّة وجويّة بين طهران وواشنطن. لكنّ الأكيد أنّ الحرب الإقتصاديّة والماليّة الأميركيّة على إيران ستتصاعد أكثر فأكثر خلال الأيّام والأسابيع القليلة المقبلة.
تمارس أميركا في هذه المرحلة “إرهاباً اقتصادياً دولياً غير منظّم” على جميع الدول التي تسير خلفها أو تقبل وصايتها، وتلجأ واشنطن إلى هذا النوع من الإرهاب عندما تجد أن الفتن التي أتقنت صنعها في كواليسها لم تجدِ نفعاً، وبدأت تنتقم بعد أن فشلت سياسياً وعسكرياً في منطقة الشرق الأوسط من الدول التي قاومتها عبر فرض عقوبات اقتصادية على شعوبها وتعطيل برامج ومشاريع التنمية الاقتصادية وتدمير البنى التحتية في الدول والمجتمعات الإنسانية بهدف إبقاء تلك الدول والمجتمعات متخلّفة في إدارة شؤونها الاقتصادية كي لا تتمكن من الإنعتاق والتحرّر وتحقيق الإستقلال الاقتصادي الذي يؤدي إلى التحرّر والانعتاق الاجتماعي والاستقلال السياسي الفعلي.
لبنان – سوريا – العراق – اليمن – إيران، جميع هذه الدول قاومت السياسة الأميركية الرامية إلى تفتيت مجتمعات هذه الدول وإضعافها، ولم ينجح افتعال الأزمات الإقليمية مع هذه الدول على الرغم من زجّ عشرات المجموعات الإرهابية في هذه الدول وتمكّنت هذه الدول بفضل تضافر جهود جيوشها إلى جانب تكاتف شعوب هذه الدول وتلاحمها إلى إحباط جميع المخططات الأميركية، وها هي سورية تستعيد عافيتها وكذلك العراق بعد أن تمكّنت هاتين الدولتين من دحر الإرهاب وكان لإيران فضل كبير في إنهاء الإرهاب من هذه الدول، ولذلك عمدت واشنطن إلى أذيتها وفرض عقوبات عليها لتأليب الرأي العام الإيراني ضد الحكومة التي تساند شعوب المنطقة، وعلى الرغم من أن ايران لم تخرق أي معاهدة دولية ومنها الإتفاق النووي على عكس أميركا التي خرجت منه واتخذت خطوة آحادية الجانب إلا أن صمت الغرب ووقوفهم على الحياد دفع واشنطن للتمادي في فرض العقوبات الاقتصادية على الشعب الإيراني.
وفي هذا الإطار حذّر وزير الدفاع الإيراني العميد أمير حاتمي، الغرب من سياسات ترامب ونهجه القائم على العنصرية والعنجهية والظلم والتطرف قائلاً: “إن استمرار هذه المواقف من شأنه أن يعرّض العالم إلى صراعات لا تحمد عقباها”، وتابع: “لقد حان الوقت للحؤول دون ظهور “هتلر” آخر على الساحة الدولية”، كما أشار إلى فشل سياسات أميركا على مدى ثلاثة عقود في توظيف الجماعات الإرهابية و”داعش” لتنفيذ أجنداتها، وقال “إن الجمهورية الإسلامية الإيرانية تؤكد على ضرورة حل القضايا والمشكلات الإقليمية عبر الحوار، مردفاً إن إيران تسعى انطلاقاً من مبادئها الأمنية وسياساتها الخارجية لتعزيز علاقاتها مع دول الجوار كافة”.
من جانبه إعتبر وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، الإرهاب الاقتصادي الذي تمارسه أميركا بأنه مؤشر لهلعهم ويأسهم، مؤكداً بأن إيران لا تصوغ توجهاتها وفقاً لتوصيات الأجانب.
العقوبات الأميركية ضد إيران وتأثيرها على دول الشرق الأوسط
لن يتوقف تأثير العقوبات الأميركية على إيران لوحدها، بل الأمر يهم دولاً أخرى، خاصة في الشرق الأوسط. فبين من يعادي إيران، ومن يتحالف معها، يدرك دونالد ترامب أن قراره قد يغيّر معادلاتٍ كثيرة لن تتوقف عند ما هو اقتصادي فقط.
وإذا كان العداء واضحاً بين إيران من جهة وعدد من الدول الخليجية كالسعودية والإمارات والبحرين لأسباب متعددة منها الاتهامات المستمرة بين الطرفين بمحاولة التدخل في الشؤون الداخلية وتمديد النفوذ في الشرق الأوسط، فالعداء ذاته يربط بين إيران و”إسرائيل”، وتتفق عدد من الدول الخليجية مع “إسرائيل” في اعتبار إيران العدو الأوّل بالمنطقة. بيدَ أن الأمر يختلف بالنسبة لدول وكيانات أخرى ترتبط بحلف وثيقٍ مع إيران، خاصة “حزب الله” وسورية، كما يختلف بالنسبة لدول لها مصالح اقتصادية أو سياسية مع إيران خاصة تركيا والعراق، وبنسبة أقل قطر التي اتجهت مؤخراً نحو إيران بعد الأزمة الخليجية، وستحاول النأي بنفسها عن الصراع الأميركي – الإيراني، لأنها “ترى في العلاقات مع إيران بوابة للخروج من الحصار”.
ففي ما يتعلّق بالخصوم، تملك إيران أوراق ضغط في المنطقة، وهي مستعدة للدفاع عن مصالحها الاقتصادية في وجه كل المحاولات التي ترمي لتقويض اقتصادها القائم على النفط، خاصة عندما تقوم بهذه المحاولة الدول التي تعاديها. وإيران قد تتخذ إجراءاتٍ أكبر للرد بالمثل، ومن ذلك منع تصدير البترول السعودي من مضيق هرمز، أو الزيادة في دعم الحوثيين اليمنيين حتى يشتد الضغط على السعودية.
الإرهاب الاقتصادي يشكّل مخاطر أكبر بكثير من مخاطر الإرهاب العسكري لأنه لا يستهدف الجيوش وإنما يستهدف شعوب الدول التي يستهدفها هذا الإرهاب، وما تفعله أميركا اليوم لا يعدو كونه محاولة مستميتة لتحقيق مكسب وانتصار سياسي واقتصادي أمام الرأي العام العالمي والأميركي وإظهار نفسه بموقع القوة كما تعوّدت أن تسوّق لنفسها، إلا أن هذه الغيمة السوداء ستزول عاجلاً أم آجلاً وستعلم واشنطن أن عقوباتها سترتد عليها وعلى جميع الدول التي وقفت إلى جانبها ومن تحمّل كل هذه الضغوط العالمية للرضوخ للإرادة الأميركية عبر العسكر والسياسة سيتمكن من تجاوز هذه المرحلة والأصعب منها.
وفي أهداف الحرب الأميركية التي تتخذ طابع الحصار الإقتصادي، وهي الخطة (ب) الأميركية، وتأتي بعد فشل المشروع الأميركي المتصهين وحربه الكونية ضد سورية ومحور المقاومة، هذه الحرب يأمل منها الرئيس الأميركي دونالد ترامب مقدمة لفرض ما يسمى “صفقة القرن” لخدمة الكيان الصهيوني ومن ثمّ تصفية القضية الفلسطينية نهائياً، ومن ناحية أخرى تأتي هذه الحرب بعد أن إهتزّت الآحادية الأميركية التي تتحكم في مصير العالم، وهي الآن بدأت في السقوط الفعلي، ويحاول ترامب عبثاً إيهام دول العالم أنه قادر على فرض شروطه، بينما واقع الحال يقول غير ذلك، والعالم يتغيّر بكل معادلاته وموازينه بينما ترامب في مكان آخر…!