فجأة ومن دون سابق إنذار، انحرفت الأنظار اللبنانية، على مدى الأسبوع الفائت عن المسار الداخلي: توظيف عشوائي، هدر مالي بمليارات الليرات اللبنانية، تزوير شهادات جامعية؛ قضية النازحين السوريبن؛فساد ينخر كل مؤسسات الدولة اللبنانية، وسائر سلطاتها، من دون استثناء يذكر، توقيفات، إحالات الى سلطات الرقابة والقضاء، وحتى القضاء نفسه لم يسلم من «اللوثة»، إلى مسار خارجي بعد قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب واعلانه بشحطة قلم سيادة “اسرائيل” على هضبة الجولان السورية المحتلة! ولكن تحت أي مسوّغ قانوني وبأي صفة تشخص أنظار دونالد ترامب نحو الجولان المحتلّ ليضمّه إلى كيان وُلد عن طريق اغتصاب الأرض في فلسطين المحتلة؟ إنّه بالفعل عصر الاستلاب الترامبي الآحاديّ، الضارب بعرض الحائط الأنظمة والقوانين الدولية الناظمة للعلاقات بين الدول وسيادة الشعوب على أراضيها. انه رئيس الولايات المتحدة الأمريكية الذي يتصرّف وكأن لا حدود ولا وجود بين الدول، في ظلّ صمت عربيّ مطبق مديد منذ اللحظة الأثيمة التي قام ووقّع وثيقة تهويد القدس وجعلها عاصمة” إسرائيل”. تؤكّد كل القرارات التي يتخذها الرئيس الأميركي دونالد ترامب أنه ماض وبلا هوادة في تطبيق كل وعوده الانتخابية وأنه يرد الدين للوبي الاسرائيلي الذي حصل على اصوات ناخبيه خلال انتخابات 2016 بهدايا أفضل منها. فمن اعترافه بأن القدس عاصمة “إسرائيل” وصولا إلى التوقيع على اعتراف مكتوب بسيادة الكيان الغاصب على مرتفعات الجولان السورية، بدا واضحا أن ترامب يتجه الآن بوضع بصماته الأخيرة على أرضية ملائمة لاندلاع صراعات وحروب أكثر دموية على شاكلة تلك التي حدثت في الفترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية. لقد نفّذ ترامب كل وعوده المقدّمة إلى حليفه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قبيل انتخابات الكنيست الإسرائيلي ببضعة أيام عبر توقيعه رسميا مرسوم الاعتراف بسيادة الكيان الصهيوني على هضبة الجولان السورية المحتلة. وبإجماع عالمي كبير، أثارت خطوة ترامب المجنونة موجة رفض واسعة النطاق وتحذيرات إقليمية ودولية من تداعيات خطيرة، مع التأكيد على أن الخطوة لم تحترم المواثيق والمعاهدات الدولية وخاصة القانون الدولي الأمر الذي ينذر بظهور سوابق تبرر نزعات توسعية لدى دول أخرى في العالم. وكانت ” إسرائيل”قد احتلت القسم الأكبر من هضبة الجولان السورية عام 1967 قبل ان تقوم بضمها عام 1981 رغم معارضة المجتمع الدولي، إلا أن ترامب اعتبر أنه “بعد 52 عاما حان الوقت” لتعترف الولايات المتحدة بالسيادة الإسرائيلية على هذه الهضبة. لا شك بأن خطوة ترامب تنتهك قرار مجلس الأمن رقم 497 لعام 1981، الذي يؤكد الوضع القانوني لهضبة الجولان السورية كأرض محتلة، ويرفض قرار ضم إسرائيل لها، عام 1981، ويعتبره باطلا ولا أثر قانونيا له. وبالنظر إلى هذه الخطوة الخطيرة على الأمن والسلام العالميين رفضت غالبية دول العالم ، ومنها روسيا الاتحادية واليابان والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية وكذلك دول أخرى كالاتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية، خطوة ترامب معربة عن رفضها القاطع الاعتراف بسيادة ” إسرائيل” على الأراضي التي تحتلها منذ 1967، بما فيها مرتفعات الجولان. وتثير القرارات الأميركية غير المتطابقة مع التشريعات الدولية، مخاوف عدة دول على رأسها روسيا الاتحادية ودول الاتحاد الاوروبي بالاضافة الى دول عربية مثل الامارات العربية المتحدة والسعودية ومصر وغيرهم فيما بدا واضحا أن لبنان اليوم هو الأكثر انزعاجا من قرارات الإدارة الأميركية بسبب مخاوف تكتسح المشهد السياسي في هذا البلد من أن تكون مزارع شبعا المحتلة هي الخطوة القادمة لترامب الذي يعطي “إسرائيل ” اليوم ما عجزت عن أخذه طيلة العقود الماضية. وبالعودة الى قرار الرئيس الأميركي الذي اعترف بموجبه بسيادة “إسرائيل” على هضبة الجولان السورية المحتلة بحضور رئيس الحكومة الإسرائيلية ؛ فإنه وإن كان يعتبر “استعمار” بعقلية القرنين الثامن عشر والتاسع عشر؛ لكنه لا قيمة قانونية له. شأنه شأن القرار، الذي اعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل”، فالقرار يتعارض بصورة شديدة وفاضحة مع مبدأ قانوني من مبادئ القانون الدولي الآمرة وهو المبدأ الذي يقول بعدم اكتساب أراضي الغير بالقوة. فعلى قاعدة هذا المبدأ القانوني أقيم القرار 242، الصادر عن مجلس الأمن الدولي وساهمت الولايات المتحدة بصياغته، ومن ثم فقرار ترامب لا تأثير قانوني له وهو تصرف فاضح من ادارة أميركية أصبحت تعيش بالعقلية الاستعمارية التي كانت سائدة بالقرنين 18 و19. وعليه؛ فإن هذا القرار الأميركي بخصوص الجولان شأنه شان القرار الخاص بالقدس، لم ينال تأييدا من المجتمع الدولي؛ فالمجموعة الأوروبية أعلنت معارضتها لهذا القرار حين بدأ الرئيس ترامب وأعلن في تغريدة له على تويتر أنه سيعترف بسيادة “إسرائيل” على الجولان، وكذلك الصين وروسيا أعلنتا رفضهما، والمجموعة العربية أعلنت رفضها، وكذلك الحكومة السورية أعلنت رفضها لهذا القرار، ومن ثم فالقرار لا قيمة قانونية له. وفي ظل هذه المعطيات الدولية الرسمية يبرز تساؤل حول أهمية القرار بالنسبة لدولة الاحتلال وإدارة البيت الأبيض، بعد أن اعلنت “إسرائيل” القدس عاصمتها منذ العام 1950، وكررت ذلك في العام 1980 بموجب قانون، وكررت ذلك في العام 2018 عندما أقرت قانون القومية؛ ونفس الشيء بالنسبة للجولان بعد قرار ترامب، وبعد ان كانت “اسرائيل” قد مدّت عام 1981 سلطة القانون الإسرائيلي على الجولان بمعنى انها أعلنت ضمها وأقامت فيها المستوطنات؟ من الواضح أن ترامب يريد أن يحمي “إسرائيل” من جرائم الحرب التي ترتكبها في الأراضي المحتلة العربية كلها؛ سواء السورية أو الفلسطينية او اللبنانية، و من ثم يريد ان يطمئن الكيان الغاصب من امكانية ملاحقته قضائياً في المحافل الدولية الأمر الذي ستلجمه الولايات المتحدة؛ بسبب ما تتمتع به أمريكا من سيطرة ونفوذ في العالم، وهذا أمر يرى فيه عدد من خبراء القانون الدولي نوع من “الخداع الذاتي”؛ على إعتبار أن هذه الأراضي العربية المحتلة تظل بموجب القانون الدولي أراضي محتلة، وتظل “إسرائيل” بموجب القانون الدولي سلطة قائمة بالاحتلال، وبالتالي جميع التصرفات التي تتعارض مع القانون الدولي الإنساني تعتبر بشكل أو بآخر جرائم حرب دولية، وهذه الجرائم لا تتقادم في القانون. ويبقى السؤال :كيف يمكن لرئيس الولايات المتحدة أن يتخذّ قراراً يناقض به قرار مجلس الأمن رقم 497 لعام 1981 والذي وافقت عليه الولايات المتحدة نفسها في مجلس الأمن والذي صدر بالإجماع والذي اعتبر أن قرار إسرائيل الذي أصدرته في ذلك العام بضم الجولان هو قرار باطل ولاغ؟ وهل يصبح ترامب بلفور آخر؟ يعترف الاستراتيجيون الأميركيون، أن حقبة الأحادية الأميركية كقوة عسكرية كبرى، واقتصادية هائلة، ليست قدراً، يسير على هواه… فعودة روسيا الاتحادية إلى المسرح كقوة عسكرية، والنمو الهائل في الاقتصاد الصيني.. فضلاً عن صعود الإسلام كقوة عالمية (تركيا – ايران – ماليزيا، حركة المقاومة، العالم العربي…) يغطي مساحة من الجزيرة العالمية، تمتد من الشمال الافريقي إلى جنوب شرق آسيا تؤهله ليصبح قوة لا يستهان بها على الساحة الدولية.. ومن هذه الوجهة بالذات.. فالجغرافيا السورية، التي تقع بعيداً وراء حدود الولايات المتحدة، كذلك الحال بالنسبة للبنان، وفلسطين والأردن والعراق ودول الشرق الأدنى، تدخل بقوة ضمن المبادئ الاستراتيجية الاجرائية للولايات المتحدة.. ولكن ضمن تحوّلات تجعل سوريا بعد انتصارها على الارهاب أرضاً لاختبارات قوّة قديمة – جديدة!
**