تشكّل الجمهورية الإسلامية الإيرانية حجر الزاوية في المعادلة الإقليمية، وذلك لأهمية دورها المحوري في الجغرافيا السياسية، ومواقفها المعلنة التي تمّ ترجمتها خلال 40 عاماً من الثورة التي غيّرت وجه المنطقة وأصبحت قوة أساسية فاعلة في مواجهة الغطرسة الأميركية ومحاولتها السيطرة على المنطقة وفرض الأجندة الأميركية بكل أبعادها والتي هي ترجمة لأجندة صهيونية والعكس صحيح، هذا ما أثبتته الأحداث ولن تنفع محاولات الأميركي وتوابعه في المنطقة من النيل من إيران ودورها الصاعد.
إن ما يميّز هذا البلد العظيم هو إلتزامه بقضايا الأمة وحمل لواء الدفاع عن قضاياها، وما أزعج الأعداء هو تصدي إيران للهجمة الأميركية – المتصهينة تحت عنوان إعادة ترتيب المنطقة من خلال مشروعها “الشرق الأوسط الجديد” الذي بُني على ضلال وهدفه تفتيت المنطقة وضرب مكوناتها ببعضها البعض وإشعال الفتنة بين الطوائف والمذاهب وخلط أوراقها خدمة للأهداف الأميركية في الهيمنة ونهب الثروات، ومنذ فجر الثورة الإيرانية أصبحت القضية الفلسطينية في سلم أولوياتها وفي القلب منها القدس.
عملت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب على إلغاء الإتفاق النووي مع إيران عندما سقط رهانها في الحرب المدمرة التي استهدفت سوريا وبقية أطراف محور المقاومة في أمتنا، وثبت أن إيران عصية على التطبيع في ظل قيادتها الحكيمة والشجاعة.
وصعّد الأميركي ضد إيران من خلال رسائل التهديد والوعيد والتلويح بالحرب وهذا لم يعطِ جدواه، إذ أن ميدان الصراع سيمتد الى مساحة أوسع ستطال المصالح الأميركية وهي لن تقتصر على الميدان الإيراني فقط.
وتحاول واشنطن أن تنهك الدولة الإيرانية من خلال العقوبات والضغوط الإقتصادية والعسكرية، كي تجبرها على الرضوخ للمطالب الأميركية، وفي جعبة الأميركي سلة من الشروط تؤشر الى مرحلة من المواجهة التي ستطال المنطقة بأسرها، وهي التعبير الأقوى الذي يمثل الغطرسة الأميركية في أبعد تجليات العدوان والغرور، تبدأ هذه الشروط “بالطلب من إيران تغيير سلوكها في الشرق الأوسط، والإنسحاب من سوريا وسحب القوات التي تشرف عليها هناك (هذا حسب تعبير الخارجية الأميركية)، وأيضاً ضمان حرية الملاحة في الخليج، ووضع حد لإنتشار الصواريخ الباليستية الإيرانية”.
بالمقابل تعمل طهران على تعزيز قوتها واليقظة التامة والإستعداد لمواجهة أي عدوان عليها وهي أكثر تمسكاً بكل ثوابتها والتزاماتها تجاه قضايا أمتها ولن يرهبها تهديد أو وعيد، وهي ترسخ تحالفاتها مع روسيا وكل الدول الصديقة، وتركز وجودها في العراق وسوريا وعلاقتها التجارية مع تركيا، وهي بالتأكيد لن تفرش الورود للأميركي المعتدي وإنما ستوجّه ضربة موجعة للمصالح الأميركية في المنطقة.
وعملت الحكومة الإيرانية على طمأنة الرأي العام الداخلي من تبعات العقوبات بالتأكيد على امتلاك طهران بدائل تمكنها من بيع نفطها وتوفير الحاجات الأساسية للبلاد، وهناك أيضاً التعويل على الإستياء الدولي من سياسات الرئيس الأميركي ترامب، وهذا ما ظهر في الإنتخابات النصفية الأميركية في الداخل الأميركي.
وهناك أيضاً التهويل الإعلامي للإدارة الأميركية وحلفائها في المنطقة وهو يفوق بكثير مفاعيل العقوبات وذلك لأسباب إنتخابية عبر التأكيد على نجاعة سياسة ترامب، ومن جهة أخرى التحريض الأميركي الذي يستهدف الداخل الإيراني والذي يتعلق بمستوى المعيشة في البلاد.
ورغم الضجيج الذي يطلقه المسؤولون الأميركيون عن مضاعفات عقوباتهم على إيران بوصفها الأقوى في التاريخ وعن قرب انهيار إيران وأنها تشكّل كارثة إقتصادية، ومع ذلك يمكن القول، إن حسابات الحقل الأميركي لم تتطابق مع حسابات بيدر التنفيذ، وتحدث الأميركيون عن “تصفير” بيع النفط الإيراني، لكنهم يدركون أن هذا لن يحدث حالياً وربما في مرحلة لاحقة!
وعندما أعلن الأميركي عن العقوبات ضد إيران، هدّد جميع الدول التي تنوي شراء النفط الإيراني بالعقوبات وشدّد على أن لا إعفاءات من قراراته، لكن قبل دخول العقوبات بأيام حيز التنفيذ أعلن الأميركي إعفاء 8 دول من أية عقوبات ومعظم هذه الدول هي المستهلك الرئيسي للنفط الإيراني، وسرّب الأميركي تهديداته للمصارف الإيرانية بفصلها عن نظام “سويفت” للمبادلات المالية، ثمّ تراجع بعد إدراك أن مثل هذا الإجراء سيؤثر على كل القطاع المصرفي العالمي.
وفي الداخل الأميركي هناك أحد الأجنحة التي تريد إزالة النظام الإيراني إلا أن التوازن الحالي هو لمصلحة الجناح الآخر الذي يريد المفاوضات مع إيران، وفي المحصلة يرى البعض من الأميركيين أن إيران سترفع الراية البيضاء في سماء طهران وهذا لا يعدو عن كونه أحلام لن تتحقق، والبعض يراهن على صناديق الإنتخابات الأميركية وعدم تجديد ولاية أخرى للرئيس ترامب.
تجاوزت إيران الأيام الأولى لدخول الحزمة الثانية من العقوبات الأميركية حيز التنفيذ دون أن تسجل الأسواق المالية أو التجارية أي تدنٍ في أسعار العملة المحلية مقابل الدولار الأميركي، وظهر تماسك الإقتصاد الإيراني الذي مرّ بأشهر صعبة ليس نتيجة إنسحاب أميركا من الإتفاق النووي أو فرضها الحزمة الأولى من العقوبات إنما لثغرة في الفريق الإقتصادي الحكومي وتمّ إجراء ما يلزم لتعزيز صمود إيران في مواجهة العقوبات الأميركية، وأكّد الرئيس الإيراني حسن روحاني والمسؤولون في المجال الإقتصادي قدرة الجمهورية الإسلامية على الصمود واجتياز المرحلة الصعبة.
وتستند طهران في تفاؤلها على عدة معطيات منطقية إذا استمرت المواقف الدولية على شكلها الحالي ويمكن إيضاحها على الشكل التالي: العقوبات الأميركية هي عقوبات آحادية وليست دولية كما حصل عام 2011 حيث أدرجت العقوبات آنذاك تحت الفصل السابع في مجلس الأمن الدولي وبالتالي يمكن الإلتفاف عليها بطريقة أسهل من السابق في ظل المواقف الرافضة للآحادية الأميركية والداعمة للإتفاق النووي ولفتح قنوات تجارية ومالية لاسيما المواقف الأوروبية.
إن تراجع الموقف الأميركي من “التصفير” النفطي الى إعفاء ثماني دول من هذه العقوبات، وهذه الدول من أبرز المستوردين للنفط الإيراني (الصين واليابان وكوريا الجنوبية وتركيا وآخرون..)، ولهذا التراجع أسباب عدة: منها عدم استجابة معظم الدول لاسيما تلك التي تربطها علاقات إقتصادية مع إيران للضغوط الأميركية، وهذا الأمر يضع واشنطن بين خيارين، المضي قدماً في مواجهة العالم ما سيزيد من عزلتها أو التراجع عن فرض العقوبات على عدد من الدول التي تستورد النفط الإيراني، وهناك المخاوف من إرتفاع أسعار النفط الخام الى أرقام قياسية ستؤثر سلباً على الإقتصاد الأميركي والعالمي، وهناك أيضاً عدم قدرة السعودية ودول الفلك الأميركي من تعويض النفط الإيراني في الأسواق العالمية وكذلك المواقف الأوروبية الداعمة لإيران والمؤكدة على الإلتزام التام معها في مواجهة العقوبات، وقد تمّ التوصل الى منظومة مالية مصرفية أوروبية لتكون بديلاً عن نظام التبادلات المالية العالمية بين البنوك (سويفت) وستدخل حيّز التنفيذ، بالإضافة الى اعتماد العملات المحلية مع عدد من الدول الصديقة والمجاورة لإيران في التبادلات التجارية الثنائية وهذا يعطي مزيداً من القدرة لطهران على التحرر من قيود الدولار ووزارة الخزانة الأميركية، وموقف الأمم المتحدة الداعم لإيران وموقف محكمة العدل الدولية الرافضة للعقوبات الأميركية واعتبارها مخالفة للقانون، والإتفاقات الدولية الموقعة بين الطرفين عام 1955 عزّزت موقف الإتحاد الأوروبي.
لكن السؤال الأهم الذي يطرح نفسه وبشكل موضوعي هو الى أي مدى يمكن أن تواجه الشركات الأوروبية العقوبات الأميركية ولاسيما أن دول الإتحاد الأوروبي ليست مستثناة من هذه العقوبات؟
والسؤال أيضاً حول قدرة الدول الثماني التي أعفيت من العقوبات على تخطي السقف الذي وضعته إدارة الرئيس الأميركي ترامب لهذه الدول لشراء النفط الإيراني؟
نقول وبكل تأكيد: “وحتى إذا لم تكن الإجابة إيجابية على هذين التساؤلين”، تبقى لدى إيران القدرة على الصمود وتخطي المرحلة كما فعلت سابقاً على مدى 40 عاماً وحتى في ظروف أصعب وأشد قسوة خاصة مع بداية إنتصار الثورة الإسلامية.
والرهان أيضاً على قوة إيران التي أعدّت ما يلزم لهذه المواجهة بكل أبعادها وهي ليست وحدها وهي في محور المقاومة قائدة ورائدة وقدمت الكثير وحققت الإنتصارات.