عندما نخوض في مضمون وثيقة الوفاق الوطني التي اقرت عام ١٩٨٩ و اصطلح على تسميتها اتفاق الطائف نرى انه الى جانب البنود او المبادىء العامة التي اقرتها الوثيقة و التي كان لها الدور الاساسي في جمع اللبنانيين على مبادىء مثل عروبة لبنان و نهائية الوطن اللبناني لجميع ابنائه الذين تجمعهم صفة العيش المشترك، تحرص الوثيقة ايضاً على بعض البنود الاخرى التي اتت بمثابة تأكيد و تحديد لجملة من الامور التنظيمية مثل قانون الانتخاب و اللامركزية الادارية الى جانب مجلس الشيوخ الذي يشكل محور دراستنا والذي لا يعقل اعتباره ، منزّلاً في كل تفاصيله لكونه يعتبر من البنود التنظيمية التي يقتضي بالطبع التقيد بها و لكنها بالضرورة مرتبطة بأوضاع و ظروف و تحولات و الحاجة الى التعمق في مقاصدها.
تتمتع التجربة الدستورية اللبنانية بخصوصية تعكس الواقع الاجتماعي – السياسي الذي تتميز به البنية المجتمعية في لبنان. وهي بنية تقوم على وجود الطوائف والتنوع الديني والثقافي.
وقد جاء الدستور اللبناني في 23 أيار سنة 1926 ليعكس هذه البنية الاجتماعية – السياسية والتي طبعت الدستور اللبناتني بطابع خاص، وميزته عن الدساتير العربية. ويبدو هذا الانعكاس واضحا في أربع مواد أساسية هي المواد 9 و 10 و24 و95 من الدستور التي تتعلق بحرية الاعتقاد واستقلال الطوائف بادارة شؤونها الذاتية وتطبيق شرائعها الخاصة في مجال الأحوال الشخصية وأن يكون لها قضاؤها الخاص، وبحيث تتمثل الطوائف بصورة عادلة في الحكم والادارة ومجلس النواب.
لقد نص الدستور اللبناني منذ ولادته في العام ١٩٢٦ في المادة 16 منه على أن هناك هيئتين تتولى السلطة الاشتراعية هما : مجلس الشيوخ و مجلس النواب.
لكنه أعيد النظر بنص المادة المذكورة بفعل التعديل الدستوري الصادر في ١٧ تشرين الاول ١٩٢٧، والذي أناط السلطة الاشتراعية بهيئة واحدة و هي مجلس النواب.
و لكن بعد التعديل الاخير للدستور، و تنفيذاً لبنود اتفاق الطائف 1989نصت المادة 22 المعدّلة من الدستور على ما يلي: “مع انتخاب أول مجلس نواب على اساس وطني لا طائفي يستحدث مجلس للشيوخ تتمثل فيه جميع العائلات الروحية و تنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية”.
وفي حين تختلف آليات ادارة التعددية والفلسفات التي تتبعها الانظمة العالمية في التعامل مع الجماعت ومصالحها وتختلف بين دولة وأخرى بحسب ظروف الدول ونظامها السياسي،وحجم الصراعات الداخلية، وما تمتلكه من عناصر قوة لمواجهة هذه الظاهرة وما يترتب عليها من تفكك المجتمعات وانهيارها. فإن تبني نظام الثنائية البرلمانية لم يكن وليد الصدفة، بل كان نتيجة خلفيات أخذت مبررات منها سياسية وقانونية من جهة، ومن جهة اخرى فإن انشاء نظام المجلسين جعل البرلمان مساحة جديدة للتغيير والحوار على المستوى السياسي وأداء لتحسين نوعية التمثيل الوطني للشعب والأقاليم، إضافة الى كونه احد الوسائل لضمان استقرار استمرارية الدولة والانتقال الهادئ للسلطة في حالة الشغور
لذلك جاء اتفاق الطائف يعدّ العدّة لاستحداث غرفة ثانية في البرلمان اللبناني ويمهد لها الطريق. فلم يكتف باعلان شعار إلغاء ” الطائفية” و” الطائفية السياسية”، ورفعه الى مستوى الهدف الوطني، ووفق خطة مرحلية، ولكنه وضع آلية للتطبيق من خلال إنشاء هيئة وطنية يكون من مهمتها دراسة وإقتراح الطرق الكفيلة إلى تخطي أو إلغاء “الطائفية السياسية”، كما جاء في المادة 95 الجديدة من الدستور المعدّل.
وبينما يتعامل البعض في لبنان مع فكرة إستحداث غرفة ثانية في البرلمان اللبناني بطريقة ايجابية ، يتعمّد البعض الآخر الممانعة حيال تطبيقها هذا فضلاً عن انه يخالط إنشاء هذه الغرفة عراقيل عديدة او تفسيرات او تأويلات غير دقيقة واغتراب ثقافي حيال شعار ” الطائفية” و الطائفية السياسية” وظهور دعوات متكررة للنأي عن فكرة قيام مجلس للشيوخ بدعوى عدم اهميته و ضرورة الخروج عليه و هو ما ادى بالفعل الى الحد من الاستفادة الفضلى من وثيقة الوفاق الوطني التي توخاها من صاغوها و أقروها.
إن غياب صورة الدولة الوطنية في لبنان ونمو الحس القبلي والجهوي إضافة إلى انتهاج الزبائنية السياسية، والمحاصصة الطائفية بذريعة منع هيمنة أي طرف على الآخر ومنع تفاقم الطائفية في لبنان إلى مذهبية خطيرة كل ذلك حدا بالمؤتمرين في اتفاق الطائف إلى الدعوة لتشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية تنفيذاً للمادة 95 من دستور الطائف والإسراع في تنفيذ المادة 22 من الدستور التي تبطل التمثيل على أساس طائفي في مجلس النواب ويستعاض عنه بمجلس للشيوخ تتمثل فيه كافة العائلات الروحية اللبنانية.
لقد كان للطائفية دور رئيسي في تكوين بنية المجتمع اللبناني، وفي إنشاء دولته ونظامه السياسي، فالطائفية هي مكوّن أساسي وفعّال للنظام السياسي والاجتماعي اللبناني، وقد امّنت عبر التاريخ توازنا سياسيا بين مكونات المجتمع المتعددة. بالمقابل يعاني لبنان من واقع سياسي واجتماعي وأمني مضطرب منذ تكوينه رغم فسحات الانفراج التي كان يعيشها أحيانا. فالزعماء السياسيين والحكام الذين تعاقبوا على الحكم لم يستطيعوا ايجاد حلول دائمة لهذه الأزمات، ما عزّز النزعة الطائفية والمذهبية بين أبنائه، الأمر الذي ادّى الى تحوّل عبارة، أو بالأحرى شعار “الطائفية” من قبل مؤلفين أجانب ولبنانيين وعرب عامة الى سلة مهملات يرمون فيها كل ما لا يفهمونه او يرفضونه ايديولوجيا وهو ما دفع الرئيس حسين الحسيني للقول أن وثيقة الطائف ” لم تُقرأ ولم تُفهم جيدا”، لو ” قُرأت وفُهمت جيدا” لكان من المنتظر أن تحثّ باحثين على تعديل تصريف شعار “الطائفية” والذي سبق أن استعمله ميشال شيحا بين مزدوجين ادراكا منه أن الموضوع يتطلب دراية وعلما ومنهجية
ان الثنائية البرلمانية ليست لباسا واحدا لكل المجتمعات، فالقوانين الاساسية للمجالس البرلمانية ونظام الانتخاب او التعيين فيها يتغير من دولة الى اخرى حسب طريقة كل منها وتصورها للديمقراطية. وقد يمثل في الغرفة الثانية ما لم يمثل في الغرفة الاولى. إذ أن الهدف من الغرفة الثانية ليس مجرد استحداث نسخة من الغرفة الاولى كما يرى بعض نقاد نظام المجلسين .
وإزاء الجدل والانقسام الحاصل حول اعتماد نظام االمجلس الواحد او نظام المجلسين في لبنان ، نرى انه لا يمكن الجزم بتفضيل اي من النظامين حيث يصبح من الافضل تطبيق القاعدة العامة في النظم السياسية والتي تقضي أن ما يصلح لدولة ما من نظام معين لا يصلح لدولة أخرى. وقد يختلف الأمر ضمن الدولة الواحدة من زمن الى آخر وإن كانت التجارب قد دلّت على ان اعتماد نظام المجلسين مرتبط اساسا بجملة من الاسباب السياسية والاجتماعية التي تتفاوت من دولة الى اخرى، والتي تعكس بصورة واضحة فلسفة النظام السياسي وتوجهات القائمين عليه. فقد يكون نظام المجلسين ناتج عن دوافع سياسية، او تطورات تاريخية، او تقسيمات جغرافية، او اوضاع اجتماعية والتي ساهمت جميعها بشكل أو بآخر في اعتماد الثنائية البرلمانية. هذا فضلا عن صلاح وملاءمة الغرفة الثانية في البرلمان لتكريس الديمقراطية داخل المجتمعات، وفتح مساحات أخرى للتعبير، أو نقل الصراع السياسي من الشارع إلى أطر مقننة ومنظمة، والتقليل من مخاطر المراحل الانتقالية التي تمر فيها المجتمعات، وايجاد قدر من المرونة عند تمثيل المواطنين، وضمان استقرار النظام وإدارة الديمقراطية التعددية داخل المجتمع.
من هنا تنبع أهمية إستحداث مجلس شيوخ في لبنان من منطلق الحفاظ على التنوع والتعددية في التركيبة اللبنانية في ظل ما تشهده المنطقة العربية من تبدلات في الخرائط الجغرافية وتسويات قد تكون على حساب الأقليات. على صعيد آخر لا يمكن القول أن لا أهمية لمجلس الشيوخ اللبناني المقترح لجهة الدور والصلاحيات كما هو منصوص عليه في اتفاق الطائف وذلك( حسب هذا ما يزعم) بفعل الابقاء على المادة 16 من الدستور أي بفعل النص على أن السلطة المشترعة بقيت مناطة بهيئة واحدة هي مجلس النواب في حين أنها كانت مناطة بمجلس الشيوخ ومجلس النواب قبل التعديل عام 1927.
نقول ذلك وفي اعتقادنا بأن التفسير السليم لبعض المواد الدستورية لا يكون بعزل مادة معينة عن المواد الاخرى، كما أنه لا يجوز الاتكال على تعديل المادة 16 من الدستور دون النظر الى الاحكام الدستورية المتعلقة بالموضوع ذاته والمتفاعلة فيما بينها وذلك بوصفها مجموعة يجب أن ينطلق تفسيرها من تأمين الانسجام بينها جميعاً وعدم اغفال بعضها.
وفي حين تعتبر “الطائفية السياسية” خيارا توفيقيا وملائما لحكم الدول ذات المذاهب والاثنيات المتعددة، ولكن نجدها تعتمد في اطار ممارسة السلطة على الزبائنية السياسية التي تؤدي الى العديد من النتائج السيئة،. فالطائفية على حد قول عصام سليمان “ليست ظاهرة عابرة وسطحية”، وأنها “غذت السياسة وتغذت منها فغدت عصبية سياسية أكثر منها عصبية دينية”، وأن المشاركة الطائفية في السلطة جاءت بمثابة علاج للصراعات بين الطوائف على مواقع القرار والنفوذ في الدولة وكوسيلة لتحقيق السلم الأهلي وأن “تجاوز الطائفية لبناء دولة المواطن يتطلب ضمانة الطوائف وخصوصا الأقلوية منها وتحولا راسخا في الذهنية السياسية ونشر ثقافة الديمقراطية وحقوق الانسان على أوسع نطاق.
كما أن أي بحث حول إلغاء ” الطائفية ” او تخطيها او معالجتها او في قاعدة الكوتا ، تطبيقا او تغييرا او تعديلا، لا فاعلية علمية له ، برأينا، قبل البت بموضوع الهيئة الوطنية المنوي انشاؤها بموجب المادة 95 الجديدة من الدستور المعدّل التي توكل الى هيئة وطنية عليا وضع خطة لتخطي الممارسات الطائفية تجنبا لطرح هذا الموضوع في السوق السياسية للتحريض والتفجير وتغذية النزاعات فقضايا التغيير السياسي في لبنان لا تطرح ،على حد قول الدكتور أنطوان مسرّه، في أجواء تحريضية وبهدف الفتنة السياسية. في حين أن المهل القانونية المحض هي بمثابة انذارات لتغذية نزاعات في الفترات المسماة انتقالية وهواجس الاستقواء.
ولئن يكن قيام مجلس الشيوخ وإرتباطه بتخطي الطائفية السياسية عملية بالغة التعقيد، كمن يقول بأن الثلج لا يصلح وقودا للنار ولا النار وعاء للثلج، نقترح صيغة توفيقية لنظام المجلسين على قاعدة نظام المشبك او المحاصصة متعددة الرؤوس وتوزيع المقاعد بمعدل شيخين لكل طائفة من الطوائف الثماني عشرة المعترف بها رسميا في لبنان مما يؤمّن مشاركة الطوائف الكبرى والصغرى في الحكم ولكن من دون الربط بين قيام مجلس الشيوخ وتخطي الطائفية السياسية من جهة ، مقابل مجلس نواب منتخب من خارج القيد الطائفي من جهة أخرى.
وتقوم هذه الصيغة المقترحة على أساس المزج بين قاعدة التمييز الايجابي او التخصيص من جهة، وبين مبدأ الهيئة الانتخابية الموحد ةمن جهة أخرى. وحيث أن هناك 18 طائفة معترف بها في لبنان، يكون عدد مجلس الشيوخ 36 عضوا بصلاحيات تنحصر بالقضايا المصيرية البعيدة عن تفاصيل القوانين الحياتية للمواطنين. ولكن وبسبب طغيان عدد المسيحيين في مجلس الشيوخ، حيث يكون هناك 26 عضواً مجلس شيوخ مسيحيين مقابل 10 أعضاء مجلس شيوخ مسلمين، لأن عدد الطوائف المسيحية المعترف بها هي 13 طائفة – (الموارنة، الروم الأرثوذكس، الروم الكاثوليك، الأرمن الأرثوذكس، الأرمن الكاثوليك، البروتستانت، السريان الأرثوذكس، النسطوريون، السريان الكاثوليك، الكلدان الكاثوليك، الكاثوليك، الأقباط، اليهود – بالمقابل، فإن عدد الطوائف المسلمة المعترف بها هي 5 (الشيعة، السنة، الدروز، العلويين، الاسماعيليين) – فليس من المنطق أن يترأس مجلس الشيوخ مسيحي، ليكون هناك بعض التوازن، حيث يكون أعضاء مجلس الشيوخ ذات أكثرية ساحقة مسيحية يترأسهم مسلم.
وكي لا يثير ترؤس مسلم من الطائفتين الكبيرتين خوفا من طغيانهما العددي، وبسبب المراكز المثبتة للطوائف الأربعة الكبرى كرئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس النواب ورئاسة مجلس الوزراء ونيابة رئاسة مجلس النواب ونيابة رئاسة مجلس الوزراء وقيادة الجيش والقائد العام لقوى الأمن الداخلي ومدير عام الأمن العام وبذلك يكون رئيس مجلس الشيوخ درزي ونائب رئيس مجلس الشيوخ روم كاثوليك.
أن استحداث مجلس للشيوخ يرتبط حتما بالاعتراف بدور الطوائف الدينية في لبنان والمشرق العربي، وهو دور لا يمكن تجاهله لمن يريد أن يبحث بجد في مسألة الإدارة الديمقراطية للتعددية في لبنان ، والتوصل فيما بعد الى حقيقة تصرّ على أن المرض لا يعالج الا بأدويته، وفي هذا المجال يستحضرنا هذا الوصف ل”جورج برنارد شو” عندما أعبتر ” أن الشخص الوحيد الذي أعرفه ويتصرف بعقل هو الخيّاط فهو يأخذ مقاساتي من جديد، في كل مرّة يراني أما الباقون فيستخدمون مقاييسهم القديمة ويتوقعون في أن أناسبها “، الأمر الذي يؤكد برأينا على أهمية اعتماد “التفكّر” الذي ورد في القراّن الكريم والذي يعني ممارسة الفكر بما يحقق المصلحة العليا للمجتمع وطموحات الناس وتطلعاتهم.
يبقى أن الصيغة التي نقترحها لنظام المجلسين في لبنان لا تكتمل، برأينا، الا بتعزيز الجانب الثقافي والتربوي بهدف تخطي الذهنيات الطائفية والمذهبية وهذا امر يقع على عاتق الدولة، فالمجتمع، متى تسنّت له، قيادات حكيمة وأنتلجنسيا تتمتع بخطاب لا يثير القرف من كثرة ما استهلك حول “الطائفية” “و الطائفية السياسية” “والعلمنة” وما الى ذلك من الكلمات القذائف،فعندها يمكن للبنان ان يشكل في إدارته العقلانية للتنوع أمثولة لدول عربية تتحكم فيها طائفية من لون واحد ويتقوقع فيها المواطن في الطائفة او العشيرة او القبيلة، وبعد ان فشلت معظم الدول العربية في تحقيق الاندماج الوطني بين الجماعات الدينية والعرقية والاثنية المختلفة وتعرضت معظم الأقليات او الأغلبيات المهمشة لمظاهر الاقصاء والتمييز الديني والثقافي والاجتماعي والقهر السياسي حيث بدأت هذه الجماعات تتحرك للمطالبة بحقوقها الثقافية والسياسية او للمطالبة بالانفصال بشكل جزئي او كامل عن الدولة الأم.
**