مع كلّ أزمة لتأليف الحكومة في لبنان، تبقى الأخيرة خاضعة للشد والجذب، وتتكرّر “حرب الصلاحيات” نفسها، ومعها يعود اللبنانيون لسماع المعزوفة نفسها، عن حقوق الطوائف، ورفض المسّ بها، وغير ذلك، ما يضع عقد التأليف في إطارها الطبيعي وهو نوع من البازار الذي يسبق عادة تشكيل الحكومات لا سيما أن قوى سياسية تقدمت وأخرى تراجعت ومن المهم أخذ الواقع المستجد في الإعتبارات، والجميع متفق على التسريع في تأليف الحكومة ومشاركة كافة الأطراف فيها على اعتبار أن لبنان ملتزم بما صدر عن مؤتمر “سيدر -1” وهذا يستدعي على ألا يراهن أحد على تضييع الوقت أكثر مما هو مقبول، إذ لن يكون هناك إمكانية بفصل تشكيل الحكومة عن مسار التطورات الإقليمية والضغط السعودي – الأميركي على إيران، الذي تجلّى في مسألة العقوبات على قيادات “حزب الله”.
ورغم أن رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري جاهر مؤخراً أن لا عقداً مستعصية على تشكيل الحكومة فإن مؤشرات ما قبل وصوله الى بيروت من السعودية كانت تشي بأن الطبخة الحكومية لم تنضج بعد، لا بل إن متابعين يرون أنها لم توضع على النار أصلاً والواقع أن مسيرة عقبات تقف أمام مشكلة التأليف يفترض تذليلها بدءًا من التمثيل المسيحي الى الدرزي وما بينهما على خلفية الأحجام والأوزان التي أفرزتها الإنتخابات، لكن الثابت هو ان إرادة قوية تقف وراء ضرورة إنجاز التأليف، وتذليل العقبات، وإن كان “حزب الله” وأوساط “التيار الوطني الحر”، متمسكة بمقولة تمثيل “القوات اللبنانية” والحزب التقدمي الاشتراكي والسّنّة، وسائر المكونات وفقاً لأحجامها، بصرف النظر عن أية اعتبارات أخرى، ووفقاً أيضاً لمعايير موحدة.
من الواضح أن “حزب الله” إتخذ أسلوباً مغايراً في تعاطيه مع ملف الحكومة، هو، أولاً، أعلن ضمناً أنه غير معني بأي اتفاقات جانبية، حين طالب أمينه العام السيّد حسن نصرلله بوضع معيار واضح للتمثيل الحزبي والسياسي في الحكومة استناداً إلى نتائج الإنتخابات النيابية، ودخل كلام الأمين العام لـ “حزب الله” السيد حسن نصرالله قبل أيام حول ملف تشكيل الحكومة شقه العملي، ويمكن القول إن مساراً جديداً قد بدأ في هذا السياق، فما قاله السيد علناً بالنسبة لوحدة المعايير، تبعته خطوات تفصيلية تمثلت “برسائل” واضحة حملتها عدة شخصيات قيادية في الحزب الى “الحلفاء” قبل ”الخصوم” في السياسة، حملت كلاماً واضحاً مفاده، “أن الأسلوب المتبع في تشكيل الحكومة لم يعد مقبولاً، ولن نبقى متفرجين الى ما لا نهاية، ولن نقبل بأن تفرض علينا شروط أو وقائع تتناقض مع الواقع السياسي الذي نمثله في البلاد مع حلفاءنا، إذا أردتم وحدة المعايير “فأهلا وسهلاً” وإذا أردتم الإستنساب فهذا الأمر لن يمر دون الأخذ بعين الإعتبار موقف “الثنائي الشيعي”، وهنا سيكون هناك كلام آخر، وتوزيع مختلف للحصص الحكومية، ولا يظن أحد أن الحزب سيترك حلفاءه “لقمة سائغة” لدى الآخرين، هم سيمثلون سواء كانوا ما يصطلح على تسميته “معارضة” سنية أو “معارضة” مسيحية، سواء تمّ اعتماد قاعدة “وحدة المعايير” أو تم الذهاب الى الإستنساب، فبكلا الحالتين ستكون حصتهم محفوظة لأن وجودهم يتطابق مع كلا القاعدتين، ومَن يظن أنه سيشكل حكومة دون الأخذ بعين الإعتبار هذا المعطى فهو “واهم”.. ولا تختبرونا.
وثانياً، ترك لرئيس الجمهورية العماد ميشال عون (ومعه التيار الحر) أن يواجه بالتنسيق مع رئيس الحكومة المكلف معركة تحديد أحجام بقية القوى المسيحية في الحكومة.
الى ذلك، يبدو أن الأمور لازالت تراوح مكانها بالنسبة لتشكيل الحكومة، وأظهرت وقائع سباق اللقاءات التي جرت أن المطلوب منها تحقق وهو فقط في المرحلة الحالية إعادة فتح خطوط التواصل بين المعنيين بتشكيل الحكومة من دون حل عقدتي التمثيل المسيحي والدرزي، ولكن في أجواء هادئة بعيدة عن التشنج، بحسب ما اتفق عليه في لقاء رئيس الجمهورية مع الرئيس المكلف سعد الحريري، وهو ما ترجم في لقاء عون – جعجع، الذي نتج عنه “خريطة طريق”، ذات مسار طويل ومتعرج – بحسب جعجع -، لأنها تنص على البدء بعقد اللقاءات بين قيادتي “القوات” “والتيار” الى أن تتدرج تصاعدياً وتتوج بلقاء بين جعجع وباسيل، أي أن هذا اللقاء مرتبط بتوصل الإتصالات بين الطرفين الى حل “عقدة” التمثيل المسيحي.
ولكن يبدو أن اللقاءات المباشرة لم تفعل فعلها بتسريع تشكيل الحكومة، الذي بات مرتبطاً بروزنامة إجازات المعنيين، ولم تظهر المواقف التي سجلت، سواء بعد لقاء الحريري – باسيل، أو لقاء الحريري مع أبو فاعور والرياشي، أي تقدّم في تفاصيل تشكيل الحكومة، خاصة بالنسبة إلى العقدتين المسيحية والدرزية، بقدر ما أظهرت التمسك بمواقف مبدئية تتعلق بالأحجام والأوزان: “فالتيار الوطني الحر” لم ولن ينكر تمثيل أي طرف، لكنه يرفض أن يكون تمثيل أي طرف على حساب حصة التيار، كما تبنّى باسيل معادلة السيد حسن نصرالله لجهة اعتماد معيار محدد أو النسبة والتناسب، فإذا أعطيت القوات (15 مقعداً نيابياً) أربع حقائب في الحكومة، فستكون حصة كتلة “لبنان القوي” (29 مقعداً) ثماني حقائب وزارية. وهذا الموقف ليس موقفا كيدياً بل مرتبط بحق تمثيل كل طرف حسب حجمه النيابي وفق ما أفرزته نتائج الإنتخابات النيابية.
أما لقاء الحريري – أبو فاعور فلم يخرج إلا بمواقف عامة إيجابية لكن النائب الإشتراكي أكّد تمسك حزبه بالتمثيل بثلاثة وزراء دروز، مجدداً رفض “المختارة” لكل ما يسمى حلول وسط لا تتناسب مع أي معيار أو منطق..
لا تزال المراوحة هي سيدة الموقف.. المفاوضات الحكومية وشت بأن التأليف الحكومي مؤجل حتى إشعار آخر. فهل يقوى الرئيس “القوي” على توليد حكومة قوية بقرار لبناني داخلي، يقلع معها العهد الرئاسي الذي أعلن أنه سينطلق فعلياً بعد إجراء الإنتخابات النيابية وتأليف أول حكومة في عهده، تتماشى مع التحديات التي تحيط بالبلاد وتكون خطوة أساسية نحو بناء الدولة التي نحلم بها جميعاً، الدولة التي تحمينا جميعاً وتقف بوجه الفساد والهدر الحاصل اليوم؟”.