في الوقائع والمقدمات، يبدو أن الصراع في المنطقة قد إنتقل الى فصل جديد، ولكن هذه المرة من خلال ذرائع جديدة أو أعيد تدويرها باستخدام الأدوات القديمة، وحكومة أردوغان تركيا ماتزال المجرم الأكبر الذي يستمر في سفك الدم السوري، وما يبدو تغيراً هو في الواقع تبدل في خارطة المصلحة التركية، حرق أوراق قديمة بعد أن استُخدمت في تنفيذ أغراضها مقابل تحقيق أهداف قديمة ولكن تحت عناوين وذرائع جديدة.
وما قاله رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم في المؤتمر الصحافي مع نائب الرئيس الأميركي جون بايدن يشير الى تناقض كبير وواضح: “الوضع في سوريا غير مبشر والنزوح مستمر.. والتعاون التركي مع واشنطن وموسكو وطهران هو لضمان وحدة سوريا”، بينما إستبق أردوغان زيارة بايدن ووضع جملة من التوجهات الجديدة والمتسارعة، واستغلال الوقت والفرصة لتمكين فصائل “معارضة سورية” من بسط وجودها في المناطق الشمالية المحاذية لتركيا، أي أن فكرة المناطق العازلة لا تزال تسيطر على أنقرة، وتركيا ترى في “الجيش الحر” ضامناً للحدود الممتدة من أعزاز الى جرابلس، وبدأت تركيا بتمهيد سياسي ومدفعي لغزو مدينة جرابلس وعبور الحدود السورية يوم 24 آب بطريقة استعراضية وفي موازاة استقبال نائب الرئيس الأميركي جو بايدن، والهدف المعلن: “محاربة “داعش” ومنع الأكراد من إقامة كيان كردي في المنطقة الحدودية مع سوريا”، والذريعة التركية المدهشة: “حفاظاً على وحدة وسيادة الأراضي السورية”، واختارت أنقرة توقيتاً لافتاً بعد شهر على الإنقلاب الفاشل، وبعد الفتور الذي أصاب العلاقات مع الحليف الأميركي والغربي، وبعد التطبيع بين أنقرة وموسكو، وإلتقط الأميركي اللحظة الراهنة، وليس صدفة أن يعلن جو بايدن من أنقرة: “لا صديق لتركيا أهم من الولايات المتحدة، ونتفهم موقف تركيا ولا مصلحة لنا في حماية مَن يؤذي حلفاءنا”، والمقصود هنا “الأكراد”.
والملاحظ في الغزو التركي لمدينة جرابلس السورية، بأن معركة حقيقية لم تحصل في جرابلس لإخراج “داعش” ولم تندلع إشتباكات، والتقارير تشير الى أن مقاتلي “داعش” غادروا المدينة ومنهم مَن ذهب الى تركيا! أي أن الجانب الكردي هو المستهدف الأول في العمل العسكري، والهدف الآخر والأهم في حسابات أردوغان هو “فرض المنطقة العازلة”، واللافت أيضاً حجم المبالغة الأميركية في التعابير عن دعم الغزو التركي، والمشاركة فيه وتأمينها جوياً، ولهذا عدة أهداف أيضاً، وأولها محاولة أميركية أميركية للتاللللتأكيد على السيطرة على مشهد الشمال السوري، وفي الوقائع الميدانية، سيطرت “فصائل معارضة مسلحة” مدعومة من تركيا على مدينة جرابلس بعد ساعات من إعلان أنقرة غزوها تحت إسم “درع الفرات” بهدف “إزالة المخاطر الناجمة عن “داعش” والمقاتلين التابعين لحزب الإتحاد الديمقراطي الكردي عن حدودها”.
لقد أثبتت الأحداث، بأن إقدام المقاتلين على الأرض هي مَن يرسم السياسات وبأن المقاومة هي أقصر الطرق لمواجهة الغزاة ومَن يقف معهم، وبأن الأحلام وحدها لا تحمل في طياتها عوامل تستند الى حقوق مشروعة وقانونية، أن إقامة كيان كردي على الأراضي السورية المحاذية للحدود السورية مع تركيا يعني المشاركة في الهجمة التي تستهدف سوريا، يرى فيها التركي ذريعة لتدخله بعد أن فشل طوال السنوات الماضية في تحقيق أي من أهدافه، وأن الإستقواء بالأميركي لن يؤتي بالمطلوب، لأن الأميركي سيخرج من المعادلة في النهاية وبعد سلسلة التحولات الجارية في مواقف أطراف الصراع، والمقاومة هي السبيل الوحيد لمنعهم ومَن معهم وداعميهم، وبنفس الوقت لا يمكن تجاهل أهداف المشروع الأميركي في المنطقة فهو يعمل على تعميم الفوضى وتقسيم المنطقة الى كيانات على أسس طائفية وقومية ومذهبية وهو ما يتناغم مع أحلام الآخرين.
وتثبت الأحداث والوقائع، أن سوريا عصية على الأعداء ولا يمكن إقامة كانتونات فيها، هذا في المبدأ، والعوامل الديمغرافية أمر مبالغ فيه في الحالة الكردية وفي التوقيت يُطرح أكثر من سؤال، وفي العامل الجغرافي لا يوجد رابط جغرافي إلا إذا كان الهدف يتمثل في تنفيذ المشروع الأميركي بترحيل العرب واللعب على التناقضات وإثارة الفتن والحروب، والعامل السياسي غير متوفر وجميع دول الجوار ترفض نشوء كانتونات لأسباب مختلفة، والرغبة والأميركية والصهيونية وحدهما تتفقان في نشوء نموذج تقسيمي في المنطقة لذا سيستمر اللعب على التناقضات.
وبكل تأكيد: “أميركا تفاوض تركيا بالأكراد” وتستثمر العامل الكردي بنفس الوقت، وكلاهما يتبع غرفة عمليات تقودها واشنطن، والسؤال هنا، مَا الذي يريده نائب الرئيس الأميركي جو بايدن، من خلال الإيعاز بترسيم الحدود للإقليم الكردي الموعود وبنفس الوقت تقديم غطاء قوى للتركي في جرابلس؟ يريدون بذلك إشغال الجيش العربي السوري وتخفيف الضغط عن “الدواعش” في دير الزور وعن “النصرة” في حلب، ويريدون السيطرة على الفصائل الكردية من خلال الظهور بمظهر المدافع عنهم، وترسل واشنطن رسائل لتركيا أن إقليم كردستان يمكن أن يصبح واقعاً إذا لم تسارع تركيا بالإنسحاب من التحالف مع روسيا، وتبقى الذريعة “داعش” والهدف سوريا، ومبالغة أميركية لوأد “الكيان الكردي” بعد الغزو التركي.
لقد كان موقف سوريا قوياً وواضحاً وأكّد على: “أن محاربة الإرهاب ليست في طرد “داعش” وإحلال تنظيمات إرهابية مكانها مدعومة من تركيا”، وتدرك دمشق أن الهاجس التركي مرتبط “بالمشروع الكردي” المفترض وليس بـ “داعش” والعملية العسكرية التركية تشكل غزواً صريحاً مهما كانت أهدافها، ولعبة استبدال إرهابيين بإرهابيين لن تمر، وسوريا تعرف أن الفصائل الكردية منضوية تحت الجناح الأميركي، ولعبة الأميركي على العامل الكردي واضحة ولن تنطلي على أحد، وهدفها إذكاء النيران في المنطقة وزيادة التوتر واستنزاف سوريا وخلط الأوراق واستثمار الحالة الراهنة، ومثل هذه المشاريع لن تمر وستفشل جميع فصول المشاريع الأميركية وأدواتها في المنطقة وستبقى سوريا واحدة موحدة ويستمر الصراع والنصر في النهاية لقضايا الحق، والعدل والهزيمة للظالمين وتجار الحروب وأعداء الإنسانية.